خطابات فاضلة تحاكي خيالهم

غزل حسين المصطفى:  نفق الآداب، وعلى الدرج ذاته، مازالت تجلس تلك المرأة والنداء في صوتها لم يذبل، ووتيرته واحدة. كل ما أذكره أن صغيرها الذي وضعته في حضنها منذ أعوام مضت، تحوّل اليوم إلى شريك الجلوس يردد عباراته دون إدراك، وقد حلّ محله في الحضن مولود جديد يثُير الشفقة، فلا مال لجلب حليب له!!

لم يتغيّر في المشهد لمن يُدقق في التفاصيل إلاّ زيادة الأطفال!

ألم تقل يوماً إنهم أيتام؟!

ألم تجد تلك المرأة مكاناً آخر إلاّ اعتراض طريق طلاب قد لا يملكون إلاّ أجرة الطريق؟

بغضّ النظر عن الحيثيات في القضية، صدقها أو كذبها، من كونها فرداً أو جزءاً من شبكة منظمة استغلالية!!

الفكرة هي: لماذا نرى الحاجة تُقَطّع أوصال الإنسان الفقير؟

ذلك الطفل الذي تَظَّللَ بعلبة خطوط هاتف أو كابلات كهربائية لا أدري وظيفتها، إلاّ أنها استطاعت أن تقي جسده الشمس في يوم صيفي حار، لينام مطبقاً عينيه ناسياً العالم والمارّة وحتى أصوات أبواق السيارات. المشكلة أنه افترش الأرض ومِنْ حوله أبنية شاهقة مبالغ في تزينها وعمارتها!! هناك في تلك المنطقة لا يمكن لك أن تنظر إلى آخر شرفة تحويها الأبنية فقد تتضرر فقرات رقبتك أو تُصيبك حالة ذهول!

هل هذا المكان جزء من بلدي! هنا حيث العشوائيات تُبنى بعضها فوق بعض، هنا حيث يجرف سيل مطر موحل أطفالاً وسيارات ويُغلق الطرق، وعلى بعد أمتار يشهق فندق بسهرات طرب تُبذّر من أجلها أكياس من نقود، وحتى الطعام الفاخر فيه ما إن تنتهي السهرة حتى تنادي قطط الشوارع بعضها البعض في دعوة لوليمة بين مُخلّفات الفندق في أصناف لم يرها مواطن!؟

وفي صباحٍ آخر تصدّرت صورة هامستر (فأر منزل) وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن طبيب يعرف حالته، فالمسكين مكتئبٌ، لم يعد يلهو كما كان، وحتى شهيّته للأكل تتراجع!! لا أدري لماذا لم تستطع عدسة مصور أو إنسانية أحدهم أن تلتقط صورة لطفلٍ مُصابٍ بمرض الناعور تقاذفته الأقسام في المستشفى، فحالته في تراجع والدواء واقف أو موقَفٌ في المطار لأن مدّة صلاحيته عام واحد والصحة لا تقبل بهذه المدة!! لكن كيف تقبل أن يموت أحدهم مرضاً!؟

من كل ما أسلفته سابقاً، لا يوجد تعقيب مناسب، إلاّ أنني عرضتُ جزءاً لا كلّاً، عرضتُ مشهداً ولم نتطرّق لسيناريو لا يقف عن كونه محلياً، بل إنه على مستوى العالم العربي على الأقل.

في كل مرحلة من مراحل التطور التي مرّت على المجتمعات البشرية، كُنّا نرى أنها تتغير بحيث تواكب الحياة بشكل أسلس ومُنظّم أكثر، تنتقل من عشوائيتها ومشاعها لحالة أكثر تنظيماً، وهذا كان مبعثٌ للأمل في الوصول إلى مجتمع فاضل، لكن لم نصل إلاّ إلى خطابات فاضلة تُحاكي الخيال، ثوراتٍ إن لم تكن واقعية بجيش جرار من المتظاهرين المنددين، فقد تكون ثورة داخلية في أنفستا على واقع يخنقنا، من ماضينا(المجيد) ذلك الذي يُقال أنه كُتِبَ بالدماء، قرأت يوماً عن ثورة أرادت أن تُعلن العدالة على الأرض، وتُنهي كل مظاهر العبودية والاسترقاق بشكلها المباشر أو غير المباشر، لكنني اليوم لم أطالع في واقعي إلاّ رائحة الغبار على ذلك التاريخ. فكفانا تبجيلاً لماضٍ قضى! أين نحن من واقعنا اليوم في ذكرى ثورة العمال والفلاحين!؟

العدد 1107 - 22/5/2024