في وصف حالتنا…

غياث رمزي الجرف:

(1)

منذ زمن ليس بالقريب كتبَ نشيد الشعر العربي المعاصر والراهن (محمود درويش) نصاً تحت عنوان (في وصف حالتنا…) وصف فيه أحوال العرب والفلسطينيين وصفاً موجعاً ومؤثراً، يستقر في الذاكرة الشقية، المُتْعَبَة ولا يغادرها أبداً. وها أنا ذا بعد عقود عجاف لم أجد أفضل وأدق منه (في وصف حالتنا) ليكون عنواناً لكلماتي.

 

(2)

الباحث المدقّق في أحوال العرب على امتداد الجغرافيا العربية، والباحث المدقق في الكثير من جغرافية العالم، يجد الاستخفاف بحياة البشر، وهدر كراماتهم، وشريعة الغاب والحروب وويلاتها مستمرة، والحزن يغطي وجه المعمورة، ويجد اللا سلم، واللا أمن، والقلق الوجودي، والخوف والمعاناة والمكابدة والألم يلتهمون الكثير من بقاع العالم كما تلتهم النار الهشيم. ويجد الصراع والحصار والعدوان والاحتلال والتعصب الديني المدمّر والإذلال والتعذيب والمصادرة، إلى جانب الجوع والفقر والحرمان والقمع والإرهاب الجسدي والفكري والثقافي والنفسي والسياسي والاقتصادي من السمات الثابتة والحاسمة لكرتنا الأرضية.

نذكّر، ها هنا، ببالغ الأسى والأسف بأن مقدمة ميثاق (الأمم المتحدة)، منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، قد تضمنت تعهّداً أممياً إنسانياً، وجدانياً مؤثراً: نحن شعوب الأمم المتحدة قد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نمارس التسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار، وأن نوحّد قوانا لكي نحافظ على السلم والأمن الدوليين.

وكان ذلك عبثاً.. وكان ذلك سدى (؟!).

 

 

(3)

والمدقّق في أحوال السلطة العربية يحتلّه القلق الوجودي، فهو ما برح، منذ قرون عديدة، يبحث عن إجابة شافية عن السؤال الآتي: لماذا، عموماً، لم تُقْدم السلطة العربية، منذ أن قُّتل (كليب) غِيْلَةً، إلى وقتنا الراهن، على إقامة حوار جدي ومسؤول وواعٍ مع (المثقفين) من مفكرين وكتّاب وأدباء وباحثين ونقّاد… في المجالات المختلفة لمواجهة ومعالجة ما نواجهه وطنياً وقومياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فكرياً وثقافياً؟ (لا نقصد على الإطلاق، ها هنا، مثقف البلاطات، والمثقف التابع، والمثقف المدجّن، والمثقف الانتهازي الزئبقي، والمثقف الرمادي المراوغ، ولا أيّ مثقف يزهد بالحق، ويرتهن إلى المصلحة والامتيازات والريع المادي، بل نقصد المثقف الذي يراهن بكينونته كلها على حسّ نقدي، وعلى الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة أو الأفكار المبتذلة الجاهزة أو التأكيدات المتملقة والدائمة للمجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله أو فعله، ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل أن يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علناً على حد تعبير المرجعية الفكرية إدوارد سعيد).

ولكن أليس من السذاجة بمكان أَنْ نطلب من الذي يحارب الثقافة والفكر، ويحاصر الإبداع والتجديد والعقل النقدي، أَنْ يقيم مثل هذا الحوار؟!

في منطقتنا العربية لا أحد يحاور أحداً، فالمستبدّون والمتسلّطون والمتشدّدون والمتطرّفون والمتعصّبون والظلاميون لا يحاورون. (في أحسن الأحوال حوارهم لا يتجاوز أنفسهم ولا يتعدّى حوار الطرشان). وفي الأصل هل يمكن أن يكون هناك حوار حقيقي خارج فضاء الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية؟ كلُّ شيء يشير إلى أن السلطة العربية لا تحبّ أن ترى في المثقفين إلا حاشية من الطبّالين والزمّارين يسيرون في ركابها، وأنها لا ترى، وفق تقليد شرقي قديم، للمثقف من مهمة أخرى غير أن يكون بين يدي السلطان كاتباً أو خادماً أو مؤنساً أو مادحاً، على حدّ تعبير المفكّر (حافظ الجمالي).

إننا، منذ مئات السنين، في حالة (جوع) مزمن إلى الحوار، والحسّ النقدي، والتعددية الحقيقية، وإلى حرية التعبير والانتماء السياسي دون أن يوصل ذلك كله إلى القمع والمصادرة والزج في السجون والأقبية، وإلى قطع الأرزاق والأعناق.

 

(4)

والناظر إلى أحوال العرب على الصعيد السياسي، يرى أن العرب، على وجه الإجمال، لم يهتموا ـ تاريخياً ـ بعلم السياسة اهتماماً يليق به، فهذا الاهتمام، في حدود علمنا، لم يتجاوز حدّه الأدنى؟ ويرى أن العرب يفكرون_ إن فكّروا_ تفكيراً سياسياً قوامه التأمّل والتجربة والخطأ والأبيض والأسود، إذا صحّ التعبير؟ والسلطة العربية، ومن يقف على يمينها وعلى يسارها، هل تفكّر، حقاً، تفكيراً سياسياً جدياً وناجعاً؟ وإنْ فكّرت بسبب هذه الأزمة أو تلك، هذا الحدث أو ذاك، هل تقوم بتعديل تفكيرها وتغيير ممارساتها واتجاهاتها؟

في عصر الترجمة، عصر الحضارة العربية الإسلامية الزاهي، اهتمّ أجدادنا العرب بالتراث اليوناني اهتماماً عظيماً، وجهدوا في سبيله جهداً كبيراً، فقاموا بنقله وترجمته إلى اللغة العربية، إلا أن كتاب (السياسة) لأرسطو لم يترجم إلى العربية على الإطلاق (؟) ومحاورات أفلاطون السبع لم تترجم إلى العربية ترجمة كاملة، وتلخيص الفيلسوف العظيم المبدع (ابن رشد) لكتاب (السياسة) وتفسيره مفقود في العربية (؟) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد واجه التراث اليوناني معارضة حادّة وتهديدات عنيفة وصرخات مدوّية استعان بها أصحابها تارة بالسلطان، وطوراً بالدهاء، وتزاحم في مواكبها الفقهاء والمتكلمون والأدباء والنحويون، بل والسياسيون، يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في ذلك: يكفي أن نقرأ المناظرة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) بين أبي بشر متّى بن يونس (المترجم والمنطقي وشارح أرسطو)، وأبي سعيد السيرافي (اللغوي التقليدي الشهير)، لنشاهد إلى أي مدى بلغت العداوة والمشاحنة بين أصحاب علوم الأوائل (العلوم المنقولة عن اليونانيين) وأصحاب علوم العربية وعلوم المنقول (؟).

ولعل من المفيد، ها هنا، أن نشير إلى أن كتابة هذه المناظرة، التي وقعت أمام الوزير (ابن الفرات سنة 323 هـ) بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متّى بن يونس في النحو العربي والمنطق اليوناني، قد جرتْ في الليلة الثامنة، ومن المعروف أن كتاب الإمتاع والمؤانسة يقع في أربعين ليلة سامر فيها أبو حيان التوحيدي (312-414 هـ/ 924ـ1023 م) الوزير (ابن سعدان) الذي استوزره صمصام الدولة البويهي من سنة 373 إلى سنة 375 هـ، ثم مات مقتولاً في سجنه (؟).

وهذا بعض ما جاء في تلك المناظرة:

قال أبو بشر متّى بن يونس: المنطق اليوناني مفتاح كل العلوم، وبلا منطق لا يرتقي أحد إلى الكمال. والمنطق آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح القول من سقيمه. وقال: المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، والناس في المعقولات سواء. لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وحاجة النحوي إلى المنطق ملحة.

ومما جاء في ردّ السيرافي: القياس المتحكم في الكلام هو (النظم) و(النحو) وليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يكال ويقاس ويحذر والمنطق وضعه فرد يوناني، وكيف لبقية الأمم بهذه الآلة؟ ومع ذلك توصلتْ إلى معايير صحيحة لكلامها… الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يتوصل إليها إلا باللغة وإعرابها، وقال: النحو منطق مستخرج من العربية، لكنه مفهوم باللغة. ويُذكر أن الجالسين كانوا يرحبون بآراء السيرافي، ويضيقون بأفكار متّى بن يونس (؟).

وأخيراً هل نستطيع أن نقول: إن الفكر السياسي العربي، غالباً، لم يستطع أن يستجيب استجابة خلّاقة لمعطيات الواقع، ومن ثم لم يتم التواصل الفعّال بينهما، أيْ بين الفكر والواقع العربيين؟ وهل يمكن القول بأن هناك علاقة ترابطية جدلية بين أزمات المجتمعات العربية، والمشروع السياسي العربي عموماً؟

العدد 1104 - 24/4/2024