أزمة العقل العربي ومظاهرها في وقتنا الحاضر

جريدة النور

يونس صالح:

 إن أبرز مظاهر هذه الأزمة هو ما يمكن تسميته بالمرض العربي، ولعل أحد أهم أعراض هذا المرض، كما يجمع الكثير من الكتاب والنقاد اليوم، قبول العلاقات غير المتكافئة، وتقديس الذات أو احتقارها، والفردية، والقبلية، أو الولاء للطائفة والعشيرة، والعداوة المفرطة أو الولاء بلا حدود، والتنافس غير المقنن، والتسلط، والعزوف عن البحث عن المجهول، وأخيراً تلك الهوة التي تفصل بين النظرية والتطبيق.

إن هذه الأعراض ليست جديدة، ويجد العربي نفسه في حيرة، من أين يبدأ؟ هل الأولى بنا البحث في أسباب هذا المرض العربي؟ وهل هي مظاهر عارضة تزول بزوال أسبابها، أم هي أعراض مقيمة باقية لا فكاك منها؟

البعض يقول إنها لا يمكن أن تكون دائمة مقيمة، لأن ذلك ضد طبيعة الأشياء، ولكن في الوقت نفسه يجب عدم توقع زوالها بمرور الوقت فقط، أو بالتمني، فبعد معرفة الأسباب لابد من العمل، وهنا يكمن التعثر.

إن البنية التقليدية الموروثة تأبى أن تموت، والبنية المتوخاة والتي نحن مقبلون عليها تأبى أن تظهر، مما يجعلنا نتعثر باستمرار في طريقنا إلى المستقبل. هناك آفات ثلاث موجودة في المكونات السائدة في العقل العربي المعاصر: القطيعة ضد النسبية، والأحادية ضد التعددية، والانتقائية ضد المحصلة والتآلف.

فالقطيعة هي أحد مظاهر الأزمة التي يمر بها العقل العربي اليوم، وهي قطيعة تظهر في الاقتصاد والاجتماع وشؤون أخرى في الحياة، كما تظهر في السياسة، ولو أخذنا مظهراً واحداً من مظاهر العمل الاقتصادي على سبيل المثال، وتطرقنا إلى الاجتهادات الاقتصادية المطروحة على الساحة العربية، لوجدنا أنها حدية ومتضاربة، ولا تأخذ بالحسبان متطلبات المرحلة وما تقتضيها من مهمات يجب تحقيقها، ويمكن أن تقوم على أساس تحقيق الحد الأدنى من التوافقات.

إن العقل العربي حتى الآن ينظر بقطيعة تقليدية حادة، فإما هذا وإما ذاك، ومن ليس معي فهو ضدي.

ومن مظاهر الفترة الحرجة التي يمر بها العقل العربي، الأحادية ضد التعددية، فهناك في الثقافة اقتباس أو إبداع.. ولكن الواقع المعيش يقول لنا شيئاً آخر، فليس هناك إبداع مطلق كما أنه ليس هناك اقتباس مطلق. ثقافة أثرية وثقافة جديدة، الأثرية تعني هنا الرجوع إلى الماضي وإحيائه، والجديدة تعني تجاوز القديم وإعدامه، والواقع المعيش أيضاً يقول لنا إن الحاضر هو جزء من الماضي، وكذلك المستقبل جزء من الحاضر، ونصل إلى  قمة الثنائية عندما نفصل بين (الماورائيات والماديات)، وكأن لنا نحن البشر خياراً قطعياً في ذلك، فنحاول أن نفصل بين العلم البحت والإنسانيات، ولا نلتفت إلى ما حدث في عصر النهضة في أوربا، فقد أخذت مظاهر هذا الصراع صورة حادة تمثلت في اقتفاء الكنيسة لأصحاب الفكر العلمي وإعدامهم في أكثر الأحيان، إلا أن التاريخ قد أثبت لنا أن أصحاب العلم البحت قد أثبتوا وجودهم، وغيرت نتائج أبحاثهم من تصور الإنسان لنفسه ولمحيطه وبيئته.

ومن مظاهر الفترة الحرجة التي يمر بها العقل العربي أيضاً، مظهر الانتقائية، فلقد زحفت آثار الموجة الصناعية الثالثة على البلدان العربية، ووصفت بأنها أعظم تحول نوعي عرفه التاريخ البشري جلب معها تقدماً هائلاً في التكنولوجيا.. فانبرى البعض منا يقول إنه يمكن أن نحصل على نتائج التكنولوجيا دون أن نغير من قيمنا الاجتماعية، وكانت الانتقائية عندنا هي في إمكان الحصول واستخدام نتاج التكنولوجيا الحديث في المواصلات والاتصالات والتعليم والحرب دون أن نغير ما بأنفسنا عن طريق هضم هذه التكنولوجيا، والاستعداد للتغيير وفقاً لمتطلباتها، فالتكنولوجيا ليست إنتاج ماكينات وأدوات تستخدم، ولكنها قبل ذلك وبعده، استخدام للعقل واحترام للوقت وتقدير للعلم والتطور، وتغير قيم اجتماعية وطرق جديدة في إدارة المجتمع، فلا يمكن والأمر كذلك أن نقف منها موقفاً انتقائياً.

إن تجاوز الفترة الحرجة التي وصفت بعض مظاهرها في هذه المقالة يصبح غير ممكن على ساحة التمني فقط، لأن العمل الواقعي والمدروس هو الطريق الصحيح لهذا التجاوز.

إن أسباب ازدواج الثقافة أو الانفصال الثقافي ظاهرة ليست عربية فقط، ولكنها تكاد تكون ظاهرة شاملة في العالم الثالث في عصرنا هذا، وأسبابها كثيرة وعميقة ومعقدة تتصل بالتاريخ الاجتماعي للشعوب.

ولاشك أن المدخل لتجاوز الفترة الحرجة التي يمر بها العقل العربي، هو العمل على تحرير هذا العقل عن طريق التربية والتثقيف، وفي إطار عمل ذلك لابد من دراسة مكونات الشخصية الثقافية العربية، ومكونات الشخصية – أية شخصية- ليست فطرية، تولد مع الإنسان وتموت معه، وإنما هي مكونات مكتسبة من خلال عملية تنشئة تشترك فيها المدرسة، مع البيت، مع البيئة الاجتماعية، ومع وسائل الثقافة العامة، لذلك فإن الاهتمام بنمط النشأة الاجتماعية ومؤسساتها ومكوناتها هي التي تقدم المفاتيح الحقيقية لتجاوز هذه الفترة الحرجة.

والمداخل كثيرة ومتعددة، وهي العلم والثقافة الجادة والحرية في التعبير والفكر والعمل الاجتماعي والسياسي.

وهنا تبرز الكثير من المعوقات التي تقف في طريق الفكر الحر وانتشاره، وأهمها عجز التشريعات عن حماية المفكرين، والضغوط الاقتصادية التي يعانون منها، وتدخل السلطات العامة وإمعانها في هذا التدخل في شؤونهم.

أخيراً، لابد من العودة باستمرار إلى موضوع تحرير العقل العربي، من أجل عصر يسود فيه العقل والفكر الحر في خدمة الثقافة العربية.

العدد 1104 - 24/4/2024