كي لا ننسى.. الدكتور محمد طالب.. وداعاً!

يونس صالح:

في 18 تموز عام ،2018 انتهت حياة رجل، مثَّل خلال رحلة عمره الطويلة التي امتدت 75 عاماً، نموذجاً للإنسان الصادق والنبيل، والمفعم طيبة وإنسانية وحباً لمساعدة من يجب أن يساعَد. إنه ابن محافظة درعا، ذات العراقة التي تضرب جذورها عميقاً في تاريخ سورية، التي لا تزال شواهدها باقية، تقاوم الزمن، وخالدة خلود الشعب السوري الذي لم تستطع قهره لا جحافل الغزاة الدمويين في الماضي، ولا سنوات الإرهاب السوداء التي خيمت ظلالها في سماء سورية خلال أعوام ثمانية.

محمد طالب، ابن بلدة محجة في حوران، ولد عام 1943 من عائلة شعبية، مرتبطة بالأرض، وبالوطن، عانت من صعوبات الحياة شأنها في ذلك شأن معظم الأسر السورية، وعاصرت جميع تقلبات الحياة السياسية التي ميزت مرحلة ما بعد الاستقلال، من انقلابات عسكرية ودكتاتوريات، إلى مرحلة الانفراج الديمقراطي، إلى مرحلة الانفراج الديمقراطي، إلى مرحلة الوحدة، إلى مرحلة الانفصال إلى المرحلة الحالية، بعد الاستقلال، برزت أمام سورية مهام كبيرة، أهمها تعزيز الاستقلال الوطني، من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان النضال يجري في البلاد حول الطرق التي يمكن أن توصل سورية إلى تحقيق هذه المهام، لم يكن هناك اتجاه واحد، وكان الحزب الشيوعي السوري، الذي أخذ يبرز كقوة سياسية صاعدة، ترى أن تعزيز الاستقلال الوطني يمر عبر النضال ضد الأحلاف الاستعمارية، وضد الدكتاتورية، ومن أجل تحول اقتصادي واجتماعي يخدم الشرائح الأوسع من المجتمع السوري، ويقوي من صمود الشعب ضد المؤامرات التي كانت تتعرض لها البلاد من القوى التي تسعى لجرها إلى الوراء. في هذه الأجواء النابضة بالحياة، تدخل هذه العائلة النبيلة معترك الحياة السياسية، متأثرة بالنهوض الديمقراطي العام الذي كان يميز الحياة السياسية، وتجد في الحزب الشيوعي المعبر الحقيقي عن طموحاتها، كان الأخ الأكبر مصطفى هو الذي أثر في العائلة، لكنه وبسبب وضعه كقاض، لم ينتسب إلى أي حزب، إلا أن عواطفه كانت مشدودة دائماً إلى جانب أناس العمل، وكان له تأثير كبير في أسرته. يدخل محمد الحزب أوائل الستينيات من القرن الماضي، ويرسله الحزب إلى موسكو للدراسة، فيختار الطب مجالاً له، لمعرفته بمكانة الطبيب في منطقته الريفية، التي لم تكن آنذاك قد توفر فيها إلا القليل من الوسائل الطبية، وقدرته على خدمة أهالي بلدته، ومن ذلك الوقت، كرس الطالب محمد نفسه لخدمة هذا الهدف النبيل، وخدمة أهداف الحزب النضالية. في موسكو، كان عضواً في منظمة طلابية قاعدية، ثم أصبح بعد فترة وجيزة عضواً في هيئة فرعية تشرف على نشاط الطلاب الشيوعيين في جامعة الصداقة، وأصبح بعد ذلك عضواً في الهيئة القيادية لجميع الشيوعيين الذين يدرسون في الاتحاد السوفييتي آنذاك.

ولقد أحبه رفاقه وأصدقاؤه، لتواضعه الجم، ولاستقامته وصدقه ومبدئيته، لقد استطاع وبنجاح أن يوفق بين دراسته وعمله الحزبين، وتخرج دون أن يخسر أي عام من أعوام هذه الدراسة. وبعد عودته إلى سورية مختصاً في طب الأطفال، كرس وقته لخدمة أطفال بلاده، عمل رئيساً لشعبة في مشفى الأطفال، وكم هي كثيرة تلك الخدمات التي قدمها لأبناء سورية الكادحة سورية الشغيلة والعاملة، وفي عيادته، تجلت إنسانيته بصورة جلية إلى حد بعيد، لم يكتفِ بمعالجة المرضى، وإنما كان يقدم لهم الأدوية المتوفرة لديه دون مقابل، ويتذكره الكثيرون بكل الحب وكل العرفان بالجميل. بقي هذا الإنسان مرتبطاً بالحزب ويتابع أخباره حتى آخر الحياة، ولم يفقد ثقته بالمستقبل مطلقاً رغم كل ما يقف أمامه من صعوبات.

إن خسارة هذا الشيوعي، هذا الصديق، هي بالنسبة لنا نحن الذين عرفناه منذ زمن بعيد، هي كبيرة، إلا أن الزمن لن يمحو من الذاكرة أولئك الناس، الذين كرسوا حياتهم لخدمة أبناء الوطن الحقيقيين، والذين قدموا من أجل ذلك كل ما يستطيعون تقديمه.

العدد 1105 - 01/5/2024