الفقر وبصمته على أطفال سورية

لم يترك الفقر بصمته على أحدٍ كما تركها على أطفال هذا العالم الذي نعيش فيه، فمع الأطفال يصبح الفقر أكثر وضوحاً وأكثر مأسوية. وبالرغم من أن العديد من بلدان العالم، ومن ضمنها سورية، قد سنّت قوانين تمنع عمل الأطفال وتلزم ذويهم بإرسالهم إلى المدارس، إلا أن ذلك لم يمنع ولم يحُل دون استمرار هذه الظاهرة السيئة والخطيرة والمتناقضة مع الروح الإنسانية.

هناك في العالم أكثير من 150 مليون طفل، معظمهم في البلدان النامية، تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشرة حسب تقديرات منظمة العمل الدولية، يتوجهون كل صباح إلى أعمال خطرة لا تتناسب مع خبراتهم ولا سنوات عمرهم. بيد أن الأرقام الحقيقية العالمية هي أكبر من ذلك، والأعمال التي يقوم بها هؤلاء الأطفال لا يمكن أن يتصورها بشر. ففي بعض بلدان آسيا يمكن أن يباع الأطفال بأسعار رخيصة، كما يمكن ابتياع طفلة بثمن بخس كي يزجّ بها في بيوت الدعارة التي تشكل تجارة رابحة بالنسبة للكثير من سارقي قوت الشعوب. إن الأطفال يعملون في المصانع لقاء وجبات طعام، وفي ظروف صعبة جداً لا تتناسب مع سنّهم، فهؤلاء الأطفال يشكلون قوة عمل رخيصة جداً تتيح لأرباب العمل الضاربين عرض الحائط بكل القوانين أن يجنوا منها أرباحاً طائلة، والأطفال يخافون ويخضعون لتهديد المشرفين، ولا يمكنهم التجمع أو الاحتجاج لدى السلطات الرسمية، وليس هناك نقابة تدافع عنهم عندما يرهقون بالعمل أو يتقاضون أجوراً رخيصة، وقليل منهم يعرفون حقوقهم القانونية أو يملكون القدرة على الاستفهام حول ماهية الأجر، وأغلبهم شاكرون لأنهم يعملون ويجدون الفرصة لتناول وجبة يومية.

إنها عودة أخرى إلى زمن الرقّ بشكل جعله العالم المعاصر أكثر بشاعة. ففي آسيا وجزر الباسفيك على سبيل المثال، يعمل الأولاد لساعات تتجاوز كل المقررات الرسمية، ثم ينامون في الليل على بلاط المصنع. وفي الهند يكوى الأطفال الصغار بحديد حام إذا أخلّوا بالتعليمات. وفي تايلاند يصب الحامض الحارق على وجوه بنات الهوى المراهقات القاصرات لتأديبهن. وهناك من يرى أن كل ما يحدث لهؤلاء الأطفال هو أفضل بكثير من جلوسهم جياعاً أو تجوالهم بلا عمل.

ويقول تقرير لمنظمة العمل الدولية إن من غير الإنساني أن يجبر الصغار على القيام بدور الكبار، لأن هذا كفيل بقتل طاقاتهم الإبداعية وقدراتهم على السمو، بل إن قواهم العقلية تتبلد تماماً. ففي ظل يوم عمل يمتد إلى أكثر من عشر ساعات يومياً لا يمكن للصغير أن يلعب أو يذهب إلى المدرسة أو يفكر حتى فيما ينتظره في أيامه المقبلة. لقد دعت منظمة العمل الدولية في عام 1973 إلى أن تكون الخامسة عشرة هي السن الدنيا للعمل، ووقعت هذه الوثيقة معظم بلدان العالم، إلا أن المسؤولين في هذه البلدان يغضون النظر عن المساوئ والمظالم الواقعة على هؤلاء الأطفال، وبرغم أن التعليم في الصغر هو أمر إلزامي في كثير من الدول، فإن مجتمعات البلدان الأفقر مضطرة لاعتبار الكسب المادي أفضل بكثير من اكتساب العلم، وتؤكد المعطيات أن اليسير من العلم كفيل بتدبير مستقبل أفضل، ولكن كيف يتحقق هذا الأمر؟ إلا أنه وبرغم هذه الصورة المفزعة، وتنبه العديد من المنظمات الإنسانية لها، فلا مجال للتفاؤل. إن هذه الظاهرة منتشرة في كل مكان، وهي تتسع، موجودة في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، وكذلك في البلدان العربية، حتى تلك التي تعتبر غنية بفضل الوجود الكبير للثروات النفطية فيها.

أما في سورية، فكيف انعكست الأزمة الطاحنة التي عاشتها البلاد على الأطفال؟ من الصعب الإحاطة بكل جوانب هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة التي تواجه المجتمع، بسبب غياب المعطيات الدقيقة، إلا أنه يمكن القول إن الكثير من العائلات التي افتقرت بسبب الأزمة، أخذت تعتمد بصورة أكبر على أطفالها، لتأمين معيشتها، بسبب غياب فرص العمل، والتهجير، وغير ذلك، عن طريق إما التسول أو الأعمال العارضة الرخيصة التي يقوم بها الأطفال، أو السرقة، أو بعض الأعمال الطفيلية الصغيرة مثل شراء ربطة من الخبز بسعر، وبيعها بسعر آخر، أو البغاء بالنسبة للفتيات الصغيرات… إلخ. وقد عانت المدرسة السورية نتيجة ذلك من تسرّب كبير للأطفال، وبدلاً من أن يذهب الأطفال إلى مدارسهم، التي تهدّم الكثير منها بفعل الإرهاب والحرب في أغلب المناطق الريفية في البلاد، كانوا مضطرين للذهاب إلى العمل في الحقول. ولا تتوقف الهجرة من الريف إلى المدينة لتضيف مزيداً من التعطل والحاجة إلى التكسب بأي أجر ووفق أي ظروف، وفي مثل هذه الحالات يعمل الأطفال قبل أن يعمل آباؤهم، لأنهم يقومون بالعمل نفسه ويتقاضون ربع الأجر الذي يتقاضاه البالغ تقريباً.

إلا أن الأمر الأخطر الذي أفرزته الأزمة هو تعاطي الأطفال للمخدرات بصورة واسعة، وهي ظاهرة لم نكن نسمع بها من قبل.

إن أبطال هذه الظاهرة هم أطفال فقدوا الحماية الاجتماعية بكل أنواعها، بدءاً بالأسرة ومروراً بالجهات التي يقع على عاتقها مسؤولية حمايتهم، وتالياً الحد من الظاهرة، وصولاً إلى القوانين التي من المفترض أن تنفّذ بعد تشريعها، لمكافحة الظاهرة الخطيرة، التي يقف خلفها تجّار سمح لهم انحطاطهم بأن يقحموا أطفالاً في تجارتهم القذرة دون أن يجدوا من يردعهم.

وفي ظلّ تقصير الجهات المعنية كوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل عن معالجة هذه الظاهرة، هناك بعض المبادرات الفردية لجمع هؤلاء الأطفال وإعادة تأهيلهم نفسياً، لكن ذلك غير كافٍ. إن الحل يكمن بتجفيف منابع البيع، وسن تشريعات بهذا الخصوص، وإقامة مشاريع تهدف لتجميع أطفال الشوارع المعرضين للخطر والانحراف، واحتوائهم في مراكز صحية ونفسية مختصة بمعالجة الإدمان، تنفذ برنامجاً تأهيلياً يشمل كل الجوانب اللازمة لتنشئة أطفال أسوياء، إضافة إلى تغيير نظرة المجتمع إليهم باعتبارهم ضحية الظروف، والعمل على توفير مناخ أسري سويّ لهم تحت رعاية لجنة مصغرة ممثلة بمندوب عن كل وزارة مسؤولة.

أخيراً يمكن القول إن ازدياد نسبة الفقر عندنا، وانعكاس ذلك على الأطفال بصورة أساسية مرتبط بمشكلة البطالة المقنعة منها أو السافرة، وضعف النمو الاقتصادي وبالتالي التنمية الاجتماعية، وضعف الخدمات الاجتماعية الأساسية أو حتى غيابها، وعدم وجود شبكة حماية اجتماعية، وكذلك التوزيع المخلّ بالعدالة للثروة، وزيادة النمو السكاني، والحروب والصراعات الداخلية والإرهاب المدمر، وهذا كله يطرح أمام البلاد وضع استراتيجية تتيح إيجاد الحلول المبتكرة التي تساعد على التخلص التدريجي من كل آثار هذه الأزمة الطاحنة التي عاشتها البلاد ونتائجها الكارثية.

العدد 1105 - 01/5/2024