أثر الحرب التجارية الأمريكية في الاقتصاد العالمي والصيني

مصحح
أثر الحرب التجارية الأمريكية في الاقتصاد العالمي والصيني

تأتي الحرب التجارية الأمريكية في سياق الفكر الاقتصادي الذي يتبناه الرئيس (ترامب)، بشعاراته ومقولاته التي تنص على (أمريكيا أولا) ، وأنه لا يجوز أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية سوقاً لمنتوجات دول أخرى، وألا تتحمل تكاليف حماية أنظمة ودعم تنمية وتقدم دول أخرى مجاناً.
زاعماً أن انخفاض أسعار السلع المستوردة، وبالأخص الصينية، تعود في جانب منها إلى ( تشغيل العمال ساعات أطول، وبرواتب متدنية، وإلى دعم الحكومة للصادرات)، وهذا ما يزيد في قدرة المنتج الصيني من الدخول إلى السوق الأمريكية ومنافسة الإنتاج الأمريكي وإضعافه، ولابد من وضع حد لفتح الحدود أمام السلع الأجنبية والحد من استيرادها.
وضمن هذا السياق تسعى السياسة الأمريكية الجديدة لحماية الإنتاج المحلي، وتقوم بفرض رسوم جمركية على العديد من السلع، وبشكل خاص الحديد والألمنيوم، الذي يتم استيراده من مختلف دول العالم، وشن حرب تجارية عالمية تحت شعار حماية الاقتصاد، والأمن القومي الأمريكي، وتحصينه أمام دول العالم بما في ذلك حلفائها في الاتحاد الأوربي ( الذي يجمعهما حلف الناتو )، وهذا ما يدل على تخبط في التوجهات والقرارات، وغياب الدقة في التقديرات الأمريكية.
إن تبني الرئيس الأمريكي لسياسة الحمائية التجارية، وإهمال فكر آدم سميث وريكاردو في حرية التجارة، يعطي دلالة واضحة على تشكيكه في النظرية الاقتصادية الرأسمالية، وفي مبادئ منظمة التجارة العالمية، (وفضائل العولمة التي جعلت العالم قرية كونية بحسب التنظير الذي كان في معظمه غربياً وأمريكي المنشأ)، ويعني أن العالم أضحى أمام فلسفة جديدة في الفكر الاقتصادي، تقوم على الحمائية التجارية بدلا من حرية التجارة، وأن حرباً تجارية تدور بين البلدان الرأسمالية تتمثل بفعلٍ، وردة فعل مقابلة (تبدأها الولايا ت المتحدة الأمريكية بفرض رسوم الاستيراد على سلع الدول التي تدخل إليها، وتقوم الدول المقابلة بالانتقام عن طريق زيادة الرسوم على مستورداتها من السلع الأمريكية، وهذا ما يسبب ضرراً بالغاً للاقتصاد العالمي وللاقتصاد الأمريكي يتمثل ب:
• الحد من انسياب السلع بين الدول، وتقييد حرية التجارة المتعددة الأطراف، وبالتالي التفريط بمكتسبات العولمة الإيجابية المتأتية من تحرير التجارة التي تؤدي إليها التجارة الحرة بين الدول.
• التأثير السلبي في معدلات النمو الاقتصادي، الذي تفرزه سلسلة الفعل وردة الفعل، التي تتبعها الدول المتحاربة تجاريا، لاسيما في البلدان التي تزداد فيها نسب الانكشاف على الاقتصاد العالمي، وتسهم التجارة الخارجية بنسب عالية في تكوين الناتج المحلي فيها.
• تحميل المستهلك أعباء متزايدة، ومن جانبين، الأول من ارتفاع الرسوم والضرائب على السلع المستوردة، والثاني في الأضرار الناجمة عن تراجع الصادرات، وفقدان عدد من العمال لأماكن عملهم، وزيادة نسبة البطالة بين صفوفهم.
• تعطيل مزايا تحرير التجارة في المنافسة لجهة تخفيض تكاليف المنتج وتحسين نوعيته، من خلال رفع الرسوم والضرائب على السلع المستوردة، و حماية المنتج المحلي من منافستها.
ولطالما أن الاقتصاد هو الذي يحرك السياسة والنزاعات والصراعات بين الدول، فقد يكون الهدف من الحرب التجارية هو استفزاز الدول التي بدأت تشكل خطرا على الاقتصاد الأمريكي، وحرف اهتماماتها التنموية نحو مجالات غير تنموية، والحاضر في هذا المقام هو الاقتصاد الصيني باعتباره الأكثر خطورة، (من اقتصاديات البلدان الأخرى)، في علاقاته على مستقبل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي قد يكون الغرض من الإعلان عن فرض رسوم وضرائب على المنتجات الصينية والأوربية هو إلحاق الأذى والضرر بالأولى، والحد من انسيابها إلى السوق الأمريكية، والعمل على زيادة ابتزاز الدول الأوربية، وابقائها داخل الحظيرة الأمريكية في السياسة والاقتصاد، لاسيما مع ظهور بعض الخلل في علاقاتهما والشكوك في درجة الشفافية فيها.
وعندما نقول أن الاقتصاد الصيني هو المقصود بالأذى والضرر من الحرب التجارية الأمريكية، وبشكل أكثر من غيره، فإن حجتنا في ذلك هي:
1. إن الصين قوة اقتصادية صاعدة بمعدلات نمو عالية وبمنتجات متنوعة، وهي مرشحة لأن تكون القوة الاقتصادية الأقوى على المستوى العالمي، خلال السنوات العشرة القادمة، ولابد بحسب وجهة النظر الأمريكية من الحد من هذه الانطلاقة وإيقافها.
2. لما كان الاقتصاد الصيني يعتمد في تكوين الناتج على الصادرات بنسبة 20% وكان حوالي 21% منها (الصادرات)، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أي
إجراء للحد من هذه الصادرات من الجانب الأمريكي، سوف يترك آثارا سلبية في الاقتصاد الصيني، باعتباره يعتمد في زيادة قوته على هذه النسب الكبيرة من الصادرات.
3. التأثير سلبا في تنفيذ الخطة الصينية لعام 2025، فالصادرات الأمريكية إلى الصين بوضعها الراهن، هي من المنتوجات عالية التكنولوجيا، والحد منها من شأنه أن يعرقل تنفيذ الخطة في المجالات العشر التي حددتها (تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الصناعي والإنسان الآلي، تكنولوجيا الفضاء ومعداتها، تكنولوجيا الطاقة الجديدة، ومعدات السكك الحديدية )، ومن شأنه أيضاً أن يؤثر سلبا في تنفيذ تلك الخطة، ويمنع الصين من التمدد على هذه الصناعات التي تعتبرها أمريكا حكرا عليها، ولا يجوز للصين سرقة الملكية الفكرية المتجسدة فيها، والاستفادة منها.
والاقتصاد الأمريكي بحسب وجهة نظر المؤيدين للعقوبات، لن يتأثر كثيرا بأي إجراء تتخذه الصين في الحرب التجارية الدائرة، بسبب انخفاض نسبة اعتماده على الصادرات إلى نسبة 8%، والتي هي في غالبيتها سلع استهلاكية يمكن توفيرها من أسواق بلدان أخرى، والحالة هذه لأن الاقتصاد يعتمد على السوق الداخلية من خلال زيادة الرسوم على المستوردات، ودفع أجور مرتفعة للعاملين، تؤمن القوة الشرائية اللازمة لتحريك الطلب والدورة الاقتصادية، ويكون تأثير السوق الخارجية فيه محدودا.
وإذا كانت الصورة من حيث الشكل تبدو وردية بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، إلا أن واقع الحال ليس كذلك، ولا يعني غياب التأثير أو الضغط الصيني على الاقتصاد الأمريكي، بل هناك وسائل ضغط كثيرة من أهمها:
• استثمار الصين بسندات الخزينة الأمريكية، وبنسب كبيرة تصل قيمتها إلى تريلون و198 مليار دولار، تعني أن هناك إمكانية للتأثير السلبي بالاقتصاد الأمريكي في أية مبادرة صينية، للتخلص من احتياطاتها بهذه السندات.
• الإعلان الصيني عن افتتاح بورصة شنغهاي العالمية للطاقة، وعرض تبادل عقود النفط ب(اليوان الصيني) بدلا من (الدولار الأمريكي).
• لجوء الصين إلى استخدام جهات ضغط في القاعدة الخلفية الأمريكية (أمريكيا اللاتينية)، بتوسيع التعاون والعلاقات معها بميزات خاصة، أو في داخل الولايات المتحدة ذاتها من خلال الشركات الأمريكية التي تعمل في الصين.
• قيام الصين بفرض رسوم جمركية على الصادرات الأمريكية (الصويا، الفحم، طائرات البيونغ) التي تشكل نسبا عالية ومؤثرة في الاقتصاد الأمريكي.
وإلى جانب الضغوطات الصينية، هناك ضغوطات أوربية وعالمية متعددة تم التعبير عنها برد الصين بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على 128 سلعة أمريكية، وبإعلان رئيس المفوضية الأوربية جان كلود بولكر (أن الاتحاد الأوربي، وعلى قاعدة التعامل بالمثل سيرد بقوة دفاعا عن مصالحه، ومنعا للتأثير السلبي في الآلاف من الوظائف الأوربية)، وبقول رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد (إن الجميع سيخرج خاسرا من الحرب التجارية)، وهذا صحيح، فالحرب سواء كانت عسكرية خشنة، أو تجارية ناعمة تترك خلفها آثارا وتداعيات مختلفة، وإن كانت متباينة في شدتها وقساوتها على الأطراف المشاركة فيها، فإن التباين في شدة الأذى والضرر، قد يؤدي إلى تشكيل تحالفات جديدة بين الدول تغيّر في موازين القوى على الصعيد الدولي لن تكون في صالح الولايات المتحدة الأمريكية، وربما تتحول من نعمة لها كما تريد، إلى نقمة ترتد على تحالفاتها الدولية، وعلى استمرار قوتها وقدرتها في قيادة الاقتصاد العالمي، التي بدأت ملامح الضعف فيها تظهر على أكثر من صعيد، وإن غدا لناظره قريب.
د موسى الغرير

العدد 1105 - 01/5/2024