مأزق السياسة الخارجية المصرية… واستعادة الدور الإقليمي

أحدثت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011 تغييراً هيكلياً في خريطة القوى السياسية في مصر، فقد صعدت القوى الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، لتمسك بزمام الأمور. ولأن الأساس في فكر الإخوان هو ممالأة الواقع والزعم بالتعامل معه من أجل تغييره، دون أن ينعكس ذلك ولو بأقل قدر على الممارسة العملية.. وبذلك تتعامل جماعة الإخوان المسلمين مع الواقع والمجتمع بوجهين.. وجه يمكن تسميته ب(المظهر الجديد)، أما الوجه الآخر فهو الأصل الثابت الدائم الذي لا يتغير!

 

أزمات ما بعد الثورة

تقترن عملية تغيير السياسة الخارجية عادة بحدوث تغيير جذري في النظام السياسي للدولة، خاصة إذا ما تم ذلك بأسلوب ثوري.. ويمكن رصد بعض المحاولات المتعثرة للتغيير مع تولي د. محمد كامل عمرو لمنصب وزير الخارجية، فقد أعلن أن مصر ستبدأ صفحة جديدة من العلاقات مع دول الجوار والعالم، تقوم على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة والاحترام المتبادل واستقلالية القرار السياسي المصري، مما يعني نهجاً مختلفاً في السياسة الخارجية المصرية عما كان متبعاً في ظل النظام السابق، خاصة فيما يتعلق بإدارة العلاقات المصرية – الأمريكية- الإسرائيلية. وأثار هذا التوجه العام لوزير الخارجية المصرية مخاوف أمريكية وإسرائيلية، خاصة أن هذا التوجه المختلف امتد إلى العلاقات المصرية- الإيرانية. إذ أشار د. عمرو إلى أن العلاقات مع طهران لن تخرج عن السياق العام للسياسة الخارجية المصرية بعدالثورة، وأن إمكانية تطوير هذه العلاقات وتحسينها أمر وارد. وأثار هذا الموقف مخاوف وتحفظات دول الخليج العربية التي تشهد علاقاتها مع إيران توتراً متصاعداً.

وفي هذا الإطار ذاته يأتي ملف المعونة الأمريكية، وظهور اتجاه شعبي لرفضها، وإيجاد بديل وطني عنها، وقد تمت مراجعة هذه الدعوة، عندما تبينت الأبعاد الاستراتيجية للمعونة الأمريكية للقوات المسلحة، وترافق ذلك مع اتخاذ الحكومة المصرية قرارها الشهير بإيقاف عمل بعض منظمات المجتمع المدني الأمريكية والأوربية غير المرخصة.. إلا أن الإدارة الأمريكية أدارت الأزمة بقدر من التوازن، لاعتبارات استراتيجية.. فقد مارست ضغوطاً واضحة وناعمة من أجل إلغاء قرار الحظر لهذه المنظمات، وهو ما تحقق بالفعل. فيما يتعلق بإسرائيل، فقد أفرزت ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011 توجهاً واضحاً لإحداث تغيير في السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل. ويتراوح هذا التوجه بين التشدد بتجميد جميع أوجه التعاون معها، والمطالبة بطرد سفيرها، نظراً لمواقفها المتعنتة تجاه الفلسطينيين، فضلاً عن ضرورة وقف تزويد إسرائيل بالغاز المصري، وبين إجراء تغيير جزئي كمراجعة بعض بنود اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية، خاصة ما يتعلق بالوجود العسكري المصري في المناطق الحدودية بصحراء سيناء.

ويلاحظ من ذلك أمران بالنسبة لتوجهات السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل:

أولهما: أن هناك ضرورة لالتزام مصر بمعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، مادامت إسرائيل ملتزمة بها.

ثانيهما: هو رفض القيام بالدور الذي كان يقوم به النظام السابق.

والخلاصة أن السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل بعد الثورة لن تكون كما كانت قبلها.. ويؤكد هذا ما تعرضت له السفارة الإسرائيلية بالقاهرة من هجوم جماهيري أدى إلى إغلاقها، والثاني يتعلق بتفجير خطوط أنابيب الغاز في سيناء، ثم إرغام السلطات المصرية على إلغاء اتفاقية توريد الغاز لأسباب تجارية، وفقاً لتوصيف هذه السلطات.

لكن حدود هذا التغيير ومضمونه يتوقفان على العديد من العوامل الأخرى، كتوازن القوى المصرية- الإسرائيلية، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية.. وبالنظر إلى الأسلوب الإسرائيلي في إدارة أزمة العلاقات المصرية- الإسرائيلية بعد الثورة، نلاحظ أنه يقوم على (الضغط الحذر)، فقد تعددت الإشارات الإسرائيلية إلى عدم قدرة مصر على ضبط الأوضاع في سيناء، وتأمين الحدود المصرية – الإسرائيلية، وكان الجانب المصري ينفي ذلك. كما أن التكييف الإسرائيلي الرسمي لأزمة الغاز اقترب من التكييف المصري، بوصفه خلافاً تجارياً وليس سياسياً، وهو ما يشير إلى اتجاه لتجنّب التصعيد.

 

الإدارة المصرية للأزمات الخارجية

واجهت السياسة الخارجية المصرية مجموعة من الأزمات الموروثة من النظام السابق، ومنها أزمة مياه النيل.. فقد أكملت دول حوض النيل- عدا مصر والسودان- توقيع الاتفاقية الإطارية لدول الحوض، وتحفظت عليها مصر والسودان، خاصة أن هذه الاتفاقية يمكن أن تمس الحقوق المصرية في مياه النيل، كما أنها تتيح لدول الحوض، خاصة إثيوبيا، إمكانية بناء سدود يمكن أن تؤثر في حصة مصر في المياه. وأمام حالة التحرك الشعبي في إطار الدبلوماسية الشعبية بعد الثورة، قام وفد مصري بزيارة لأثيوبيا، واتفق على تجميد الاتفاقية الإطارية لدول الحوض، حتى تستقر الأوضاع السياسية في مصر.

ومن الأزمات الأخرى الموروثة عن النظام السابق، أزمة المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وقد حققت الدبلوماسية المصرية تقدماً واضحاً في التعامل مع هذه الأزمة، بعد توقيع اتفاق المصالحة في القاهرة.. غير أن غياب الإرادة السياسية لدى حركتي فتح وحماس أبقى الاتفاق حبراً على ورق.. ويدخل في هذا الإطار الأزمة مع قطر، التي تتعلق بمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، إذ تقدمت قطر بمرشح لهذا المنصب، داعية إلى ضرورة تداول هذا المنصب بين الدول الأعضاء، وعدم اقتصاره على (دولة المقر) كما هو معمول به.. وتم التوصل إلى حل هذه الأزمة عبر تسمية د. نبيل العربي بدلاً من مصطفى الفقى، وهو ما وافقت عليه قطر، وتوافقت عليه الدول العربية الأخرى.

يمكن رصد عدد من الملاحظات بشأن طريقة إدارة مصر لهذه الأزمات التي تواجهها خارجياً:

فقد اتسمت الإدارة المصرية للأزمات في مرحلة ما بعد الثورة بقدر واضح من البطء والارتباك وعدم تحديد جهة تختص بإدارة الأزمة.

وتبنت الخارجية المصرية عدة مناهج في إدارة الأزمات تبعاً لموضوع الأزمة والظروف الموضوعية المحيطة بها، فقد تبنت نهج التصعيد في إدارة أزمة منظمات المجتمع المدني الأجنبية، وهذا التصعيد لم يكن مدروساً، فحدث نوع من التراجع غير الممنهج، وتبنت نهج كبت الأزمة مع قطر، ونهج التهدئة والاحتواء لأزمة مياه النيل، ولجأت إلى نهج إنكار الأزمة في العديد من الحالات، وهو ا أمر يحمل في طياته مخاطر كبيرة.

وأدركت السلطات المصرية وجود محددات داخلية وإقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها في إدارة الأزمات التي واجهتها، خاصة مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج، لاسيما أن معظم الأزمات مع هذه الأطراف لها صلة بالاتجاه نحو تغيير توجهات السياسة الخارجية المصرية، وهو ما بدا واضحاً في إدارتها للأزمات مع هذه الدول.

وتعرضت الحكومة المصرية لضغط ناتج عن حالة الحراك الثوري لإحداث قدر من التغيير في توجهات سياساتها الخارجية، كما هو الحال بالنسبة لحادث السفارة الإسرائيلية، وقضية المعونة الأمريكية، والسياسة المصرية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني. إلا أن الظروف الموضوعية لم تساعد على إحداث التغيير المنشود، مما أدرى إلى ظهور توترات قابلة للتصاعد.

افتقدت الدبلوماسية المصرية بصفة عامة الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع الأزمات، وكذلك الكفاءة، فيما يطلق عليه إخراج المواقف المعبرة عن الحلول، سواء في حالات التصعيد أم التراجع، الأمر الذي كان له مردوده السلبي على الرأي العام الداخلي والخارجي.

وعند تحليل ذلك ينبغي الأخذ في الحسبان الأساليب التي اتبعتها الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى في إدارة هذه الأزمات، والعوامل التي حكمت اتباعها لهذه الأساليب، ومدى استمرارية تأثيرها، بحيث يمكن وضع رؤية استراتيجية متكاملة لإدارة أزمات السياسة الخارجية، ووضع السيناريوهات المناسبة للتعامل مع ما ستواجهه مصر من أزمات في إطار سعيها لإحداث تغيير في توجهات السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد الثورة، تستعيد بمقتضاها مصر دورها القومي والإقليمي والدولي المؤثر والفاعل.

العدد 1105 - 01/5/2024