نحن وأوباما

منح الأمريكيون رئيسهم أوباما ولاية ثانية. وهذا الأمر أعفى جهات سياسية مختلفة من فترة انتظار ترتيب أوضاع الإدارة الأمريكية الجديدة فيما لو فاز ميت رومني، مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية. كما قطع هذا الفوز رهانات أطراف مختلفة من بينها بنيامين نتنياهو على سقوط أوباما كي يكون ترتيب أوضاع رئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر سهولة وربما يعفيه هذا السقوط من حسابات داخلية ومستجدة على جبهة انتخابات الكنيست القادمة.

من جهة أخرى، فإن بقاء أوباما في سدة الحكم تضع الجانب الفلسطيني أمام استخلاصات السنوات الأربع الماضية، بدءاً من مضمون خطابه في القاهرة الذي أغدق فيه الوعود للفلسطينيين والعرب و(بشرهم) بمرحلة جديدة تضع الملف الفلسطيني على رأس جدول أعمال الإدارة الجديدة في ذلك الحين. وتحدث كثيراً عن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة وانتقد بشدة التوسع الاستيطاني في الضفة القدس، قبل أن يبدأ الرئيس أوباما مسلسل تراجع المواقف حتى تماهى مع الموقف الإسرائيلي مكثفاً في خطاب نتنياهو.

منذ منتصف ولاية أوباما الأولى اتضح للجانب الفلسطيني أن المفعول العملي لخطاب الرئيس أوباما في القاهرة قد انتهى منذ الانتهاء من إلقائه. فالمفاوضات التقريبية والمباشرة التي جرت بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي خلال العام ،2010 أكدت أن الموقف الإسرائيلي المتطرف والمتشدد بشأن عملية التسوية السياسية هو الثابت الوحيد في المعطيات السياسية التي برزت في مسار هذه التسوية. وأن المواقف الإيجابية التي عبر عنها الرئيس الأمريكي في الخطاب المذكور قد تآكلت تدريجياً بتأثير المعادلة الحقيقية التي تحكم مساحة المصالح الاستراتيجية المشتركة بين تل أبيب وواشنطن. والذي ساد فعلاً هو التوافق القديم  الجديد بين الطرفين الحليفين في الموقف من القضايا الأساسية المكونة للصراع الإسرائيلي  الفلسطيني، وخاصة فيما يتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين ووجوب عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها. وأيضاً التزام الولايات المتحدة القديم  الجديد بأمن إسرائيل على حساب أمن شعوب المنطقة وحقوقهم!

المسار الإيجابي الرئيسي في موقف الجانب الفلسطيني تجاه ما سبق ذكره، تمثل في قرار الإجماع الوطني في إطار منظمة التحرير بالانعتاق من أسر الهيمنة الأمريكية والتحكم الإسرائيلي بعملية التسوية السياسية، والانفلات من قبضة المفاوضات مع الاحتلال، بعد أن ثبت للمرة الألف أنها تجري لصالح السياسة التوسعية الإسرائيلية، والتي قطعت تطبيقاتها على الأرض شوطاً بعيد المدى جعل من هدف إقامة الدولة الفلسطينية أشبه بالمستحيل. وبناءً على هذا الاستخلاص الجماعي انطلق المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة متقدماً بطلب عضوية دولة فلسطين في المنتدى الدولي والاعتراف بها كدولة تحت الاحتلال وبحدود خط الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

ومنذ أن انطلق هذا المسعى، عبّرت واشنطن عن توافقها مع تل أبيب في رفضه، وأطلقت تهديدات مباشرة، كان بعضها صريحاً، من قبل الرئيس أوباما شخصياً، وعبر رسائل بعثها إلى الرئيس عباس في أيار/مايو 2010 لحمل الجانب الفلسطيني على الالتحاق بالمفاوضات المباشرة التي عقدت جولتيها اليتيمتين في شهر أيلول/سبتمبر من العام ذاته، بعد افتتاح كرنفاليّ جرى في واشنطن وكانت الخطب الرنّانة التي ألقيت في حفل الافتتاح هي الإنجاز الوحيد لهذه المفاوضات.

نحن الآن أمام استحقاق تقديم طلب عضوية فلسطين إلى الأمم المتحدة كما هو مفترض، ولا شيء تغير في مواقف الأطراف ذات الصلة، ولا يمكن القول مع بقاء أوباما على رأس الإدارة الأمريكية إن هناك ما يمكن أن ينتظره الفلسطينيون من الولايات المتحدة إدارة ورئيساً. فالتهديدات وسيف العقوبات لا تزال ماثلة، مما يعني أن المسعى الفلسطيني نحو الأمم المتحدة لا يدخل في معادلة جديدة لم تكن قائمة في العام الماضي عندما قدمنا طلب العضوية إلى مجلس الأمن وتم الالتفاف عليه.

وجبهة الأصدقاء بامتدادها الواسع لا تزال قائمة وهي كتل ومنظمات إقليمية ودولية تقف إلى جانب حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة، وقد وقفت إلى جانبه العام الماضي متجاوزة الضغوط الأمريكية وغيرها التي حاولت التأثير على مواقفها. والمعادلة الرئيسية التي تم التركيز عليها وطنياً هي تعزيز العامل الذاتي في مواجهة الضغوط القائمة والمتوقع. وقد أكدنا مراراً أن خطوات سياسية واقتصادية وشعبية ينبغي القيام بها حتى يستطيع المسعى الفلسطيني الوصول إلى مآلاته المرجوة.

في العودة إلى فوز أوباما مجدداً في الانتخابات، فإن هناك من يراهن على أن التجاذبات التي حصلت بين تل أبيب وواشنطن بشأن الاستيطان في عهد أوباما، سوف تكون لها تداعياتها على العلاقة بين الجانبين خلال ولايته الثانية، ويذهب هؤلاء في توقعاتهم إلى حدود إيجاد سيناريوهات على الصعيد الإسرائيلي تأثراً بنتائج الانتخابات الأمريكية. وقد قيل سابقاً الكثير من أوساط قيادية فلسطينية في السلطة ومنظمة التحرير، عن أن احتمالات نجاح التسوية مع الجانب الإسرائيلي تكون أقوى بكثير فيما لو جرت المفاوضات مع قيادة إسرائيلية أخرى بديلة عن نتنياهو، وقد ذكر إيهود أولمرت بالاسم كنموذج صالح للوصول بالمفاوضات إلى حل سياسي للصراع.

هذا الحديث يحمل في طياته رهانين على طرفين جُرّبا في الأعوام القريبة الماضية، رهاناً متجدداً على دور الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما في تجاهل فاضح لتجربة الأعوام الأربعة الماضية، ورهاناً على إمكان عودة إيهود أولمرت وفي ذلك أيضاً رهان فاضح على تجربة فاشلة في العام ،2008 في الوقت الذي كررنا فيه القول إن الرهان الصحيح والذي يأتي في مكانه الطبيعي هو الرهان على إمكانات الشعب الفلسطيني وحركته السياسية، وفي السياق تفاعل وتكامل مع جهود المواقف الصديقة. وهذه هي المعادلة الواقعية التي ثبت بالتجربة أن لها وزناً وفعلاً على الأرض، وقد حصل ذلك إبّان إصدار المجلس الوطني الفلسطيني لإعلان الاستقلال في العام 1988.

لقد جاء هذا الإعلان في وقته الصحيح، فقد تمّ بينما كانت الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في نهاية العام 1987 في أوجها، وقد شكّلت رافعة وطنية كبرى استطاعت أن تشق الطريق سياسياً ميدانياً لإعلان الاستقلال، لتنال الاعترافات الدولية باستقلال دولة فلسطين واعتبر ذلك بحق من أبرز الانتصارات السياسية التي حققها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

هذه التجربة تستحق أن نستعيدها فعلاً وتستحق أن ندرسها بعناية لنكتشف عناصر الضعف التي تمنعنا من تكرار التجربة وخاصة في مسألة الوحدة الوطنية، وفي هذا المجال نتذكر جيداً أن إعلان الاستقلال قد جاء بعد عام من استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية وبينهما اندلعت الانتفاضة.

العدد 1105 - 01/5/2024