الاستيطان الكولونيالي الزاحف… والرد الفلسطيني

بعد مرور 45 عاماً على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يتعين علينا إعادة قراءة ما جرى ويجري على الأرض من تبدلات جوهرية، بات ضرورياً بمقتضاها مراجعة التوجهات السياسية العربية عامة والفلسطينية خاصة، فما صلح قبل انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991 وأثناءه، ربما لا يصلح بالضرورة اليوم.. وهذه المراجعة لا تقدم مشروعاً سياسياً جديداً، فهذا خارج إطارها، وإنما تقدم تحليلاً ورؤية جديدة لأبعاد المشروع الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس، قد يساهمان في بلورة توجهات سياسية مغايرة.

لقد نجح الاحتلال الإسرائيلي في زرع 300 ألف مستوطن في الضفة الغربية، ونحو 200 ألف مستوطن آخر في مدينة القدس، وبذلك يكون عدد المستوطنين أكثر من نصف مليون يستوطنون في 121 مستوطنة منتشرة فوق معظم مساحة الضفة الغربية، بحيث لا تكاد تعثر على عشرة كيلومترات متواصلة أو متصلة في أي مساحة من مساحات الضفة الغربية، من دون وجود مستوطنة. وعلاوة على المستوطنات الصغيرة والكبيرة، فإن هناك أكثر من 100 بؤرة استيطانية قابلة للتوسع، ويرتبط توسعها بقرارات إسرائيلية متعلقة بالتوازنات الحزبية الداخلية من جهة، وبطبيعة العلاقة صعوداً أو هبوطاً مع الإدارة الأمريكية من جهة ثانية، وبالضغط والابتزاز الممارس على القيادة الفلسطينية من جهة ثالثة، وهذه الأخيرة خضعت في العقدين الأخيرين لتلك التجاذبات.

 

مدينة القدس (جوهرة) المشروع الصهيوني!

بعد فرض القانون الإسرائيلي على مدينة القدس عام ،1967 ثم إعلان (القدس الموحدة الموسعة) – نحو 110كم- بشرقها وغربها (العاصمة الأبدية لإسرائيل). بدأ الاستيطان في البلدة القديمة في اليوم التالي لهزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967 بتدمير حارة المغاربة والسيطرة على المباني المحيطة بها، ثم لاحقاً مصادرة (حارة اليهود) بعد توسيع حدودها أكثر من ثلاثة أضعاف.. وبعد ذلك انتشر الاستيطان كسرطان داخل البلدة القديمة ومحيطها. أما اليوم فتسيطر إسرائيل على 88% من مساحة البلدة القديمة، علاوة على ما يقارب 90 بؤرة استيطانية منتشرة في بقية الأحياء، عدا الأماكن التاريخية والأثرية والأنفاق التي حفرت أو تُحفر، وفي محيط البلدة القديمة يجري تنفيذ (مشروع الحوض المقدس)، بحيث يشمل معظم المناطق الحساسة التي تحيط بالبلدة القديمة، مثل جبل الزيتون، ورأس العمود، وسلوان، والشيخ جراح، ووادي الربابة، ووادي حلوة.

تستخدم في هذه المناطق عدة آليات للسيطرة مثل الاستيطان المباشر، إما على شكل (حي) كما هو الحال في رأس العمود والسفوح الشمالية الشرقية من جبل الزيتون، أو قصر المفتي في الشيخ جراح، أو مستوطنة (شمعون هتصديق) أيضاً في الشيخ جراح. وإما على شكل وحدات استيطانية متناثرة يجري ربطها بعضها ببعض بالتدريج، مثلما هي الحال في وادي حلوة وجبل الزيتون.

ودون المزيد من الدخول في تفاصيل الاستيطان في القدس، فقد انتُهيَ من معظم المشاريع الاستيطانية التوسعية في المدينة، ويجري الآن وضع اللمسات الأخيرة المتمثلة في إحكام إغلاق الفراغات المتبقية، مثل المنطقة الجنوبية (مشروع مستوطنة غفعات همطوس)، بحيث تصبح البوابة الجنوبية للمدينة مغلقة عبر سد حاجز من المستوطنات المشكلة من (غليو وغفعات همطوس وهارحوما) – جبل أبو غنيم. ومن الناحية الشرقية جرى الإعلان قبل أسابيع (أوائل كانون الأول 2012) بشأن توسيع (الحديقة الوطنية التوراتية) على السفح الشرقي لجبل الزيتون لقطع اتصال (العيسوية بالطور وعناتا)، وفي المنطقة الشرقية أيضاً بدأ التحضير للخطوة التالية، وهي ما يسمى منطقة E1 الواقعة إلى الشرق من جبل الزيتون، ليتم عبرها ربط مستوطنة (معاليه أدوميم) بمدينة القدس، لتعزيز القاطع الاستيطاني الشرقي الذي يربط القدس بالأغوار.

أما من الشمال، فقد انتهت المستوطنات من عملية الإغلاق والفصل الكاملين، وما يجري الآن هوعملية تسمين بالتدريج، تشابه ما يتم في بقية أراضي الضفة الغربية في المستوطنات ذات (البعد الاستراتيجي)، وتحت مسمى (النمو السكاني الطبيعي). وبالتأكيد ستكون الخطوات الاستيطانية المقبلة هي ملء الفراغات الممكنة بين الطوق الاستيطاني الخارجي مثل (غوش عتسيون) في الجنوب وبين الطوق الاستيطاني الداخلي مثل (غليو وهارحوما).

ويمكن ملاحظة ازدياد ظاهرة شرذمة البلدات والأحياء الفلسطينية عبر بؤر استيطانية صغيرة أو كبيرة، أو عبر حدائق وطرائق وشوارع وسكك حديد، بحيث تفصل البلدات والأحياء بعضها عن بعض، ثم تفتيت كل بلدة وحي عبر زرع البؤر الاستيطانية داخلها.

 

لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟ وما العمل؟

إنها لحظة قاتمة في التاريخ العربي والفلسطيني الحديث، ومع أن لحظات النجاح والأمل يندر وجودها منذ بدء الصراع بشأن القضية الفلسطينية على امتداد مئة عام.

أمامنا اليوم حركة وطنية فلسطينية تشرذمها انقسامات أفقية وعمودية متعددة، فعصب هذه الحركة الممثلة تاريخياً ب(م.ت.ف)، منكفئة إلى فصائل وشخصيات متنافسة عبر المواقع والاتجاهات السياسية والأيديولوجية، ومع أن القوى الإسلامية الناشئة لاتزال متماسكة نسبياً، إلا أنها تعاني تبايناً في قياداتها المتركزة في غزة وتلك الموجودة في الشتات.

لقد أصبحت غزة منقطعة بالكامل عن الضفة الغربية، وأضحت القدس مفصولة عن عمقها في الضفة الغربية التي تقلصت أيضاً إلى كانتونات محلية منفصمة، حتى إن المناطق (أ) و(ب) و(ج) الوهمية التي كرسها اتفاق أوسلو فقدت معناها.

إن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعيدة عن الشتات، القريب منها والبعيد، كما أن (م.ت.ف) تحولت إلى هيكل فارغ يمثل معادلة للمشاركة واهية الصلة بالحقائق السياسية والاجتماعية والثقافية الجديدة – في ظل ثورات الربيع العربي- أما حكومتا رام الله وغزة فهما سلطتان افتراضيتان الآن، ومعززتان بدفق مساعدات خارجية هدفها الوحيد تأمين عدم انهيارهما بالكامل!

لكن المفارقة هي أنه بقدر ما يوجد نهوض في الشارع العربي والفلسطيني تجاه ضرورة استعادة مكانة القضية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار إليها، فإن الانقسام الفلسطيني الداخلي يحد من ذلك، كما يحد من التأثير في الرأي العام العالمي ومنظمات حقوق الإنسان التي تشارك أسبوعياً في التظاهر أمام سياج المستوطنات.

كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ إن المحاولات السابقة التي تمت على خلفية التوفيق بين حركتي فتح وحماس، قد جرت وكأن الأمور محصورة بينهما فقط، بينما الواقع يقول بأن يكون هناك حوار وطني شامل يضم القوى والفصائل والفعاليات كلها في المجتمع الفلسطيني، ومن أجل الوصول إلى رؤية واستراتيجية مشتركة، فالقاسم المشترك بين مكونات الشعب هو ركائز المصلحة الوطنية، والعودة إلى أوليات الشعب الفلسطيني، فالشعب موحد، والتمثيل واحد تعبر عنه (م.ت.ف). والبوصلة هي التوجه ضد الاحتلال والاستيطان، ما دامت الحقوق الوطنية ثابتة ومشروعة، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، وكل ما عدا ذلك هو تفاصيل.

إن مقاومة الاحتلال والاستيطان بكل الوسائل المتاحة حق أساسي، كما أن المفاوضات لها أسس، وينبغي مراجعة العملية التفاوضية برمتها، واستخلاص العبر والدروس منها! لابد من مقاربة جديدة كلياً، مقاربة بعيدة عن أوسلو وأنابوليس وخريطة الطريق، وحتى آلية الرباعية الدولية أيضاً، ينبغي نقدها الآن، والعمل على عقد مؤتمر دولي تحت عنوان (السلام والحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة).

علاوة على كل ذلك، ينبغي إعادة النظر بدور السلطة الوطنية، لأنها أنشئت كترتيب انتقالي تحت مظلة (م.ت.ف) وقيادتها، وكذراع لها، وكانت ترتيباً انتقالياً في اتجاه إقامة الدولة المستقلة.. فأين أصبحت الدولة في المدى المنظور، وفي ظل الاستيطان الزاحف؟ لقد أصبح إمكان إنجاز الدولة المستقلة ذات السيادة موضع شك..  وبالتالي لابد من إعادة النظر في دور السلطة، وإعادة الاعتبار إلى المنظمة، وكذلك إعادة هيكلتها وإحياؤها على أسس جديدة.

هناك أيضاً المقاومة، فإذا كانت البوصلة هي مقاومة الاحتلال والاستيطان ضمن رؤية واستراتيجية جديدة، فمن الضروري نقد الأساليب والتكتيكات السابقة، واحترام ما تضمنته وثيقة الأسرى والبرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتمسك بقرارات الأمم المتحدة الضامنة لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.

العدد 1105 - 01/5/2024