المسار المضطرب للثورتين المصرية والتونسية!

في محاولة لاستشراف صورة المنطقة العربية في العام ،2013 أو ما بقي فيه من أشهر، إضافة إلى القضايا الأكثر إلحاحاً التي ربما تفرض نفسها خاصة في (دول الربيع العربي) يبدو أن الشرق الأوسط سيكون أمام تحديات وأزمات واضطرابات أكبر بكثير من تلك التي واجهها على مدى العامين المنصرمين. فـ(الثورات العربية) مهدت الطريق لانقسام سياسي أعمق، ومشاكل اقتصادية أكبر، وانعدام أمني خطير، وارتفاع حدة التناقضات الاجتماعية والطبقية التي ربما تصبح المحرك الرئيسي للأحداث في المنطقة خلال العام ،2013 وما يزيد من تأزم وضع المنطقة هو عدم ظهور حلول وشيكة في الأفق.

وفي قراءة للتوقعات في المنطقة خلال الشهور القادمة من عام 2013 يمكن القول إن هناك حالة من الانتقال والمتغيرات الاستراتيجية المتلاحقة تجعل من استشراف المستقبل أمراً محفوفاً بالمخاطر.. وهنا محاولة لرصد أبرز الأحداث والتطورات السياسية المتوقعة في أبرز بلدين عربيين انتصرت فيهما الثورة الشعبية، وهما: مصر وتونس، وذلك بالاعتماد على التفاعلات الجارية، أو المتغيرات التي تشكلت في العامين المنصرمين، ويتوقع أن تتعمق أكثر في العام الجاري.

 

مصر.. من الثورة إلى الأزمة

عاد الوضع في مصر إلى واجهة الأحداث في المنطقة وعاد معه السجال الدائر حول مستقبل (الربيع العربي) الذي سيتحدد في مصر.

ما يجري في مصر أقرب ما يكون إلى (الصورة المضادة) التي أعادت البلاد إلى المربع الذي كانت فيه خلال كانون الثاني ،2011 مع فارق أساسي هو وجود الرئيس محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمين) في رأس السلطة بدل الرئيس المخلوع حسني مبارك والحزب الوطني.. وهذا الوقع الداخلي المتفجر يدخل مصر في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والأمني ويعمق أزماتها الاجتماعية والاقتصادية ويضعف دورها الإقليمي إلى الحد الذي لا يعود يسمح للرئيس مرسي بحضور القمم الإقليمية والدولية وآخرها (القمة الإفريقية) في أديس أبابا،ويدفع الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة لا إلى إقفال سفارتها في القاهرة فقط، وإنما إلى إعادة تقييم الوضع المصري، ولتجربة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها، ولطرق وحجم المساعدات وشروطها.

ثلاثة تطورات وتفاعلات ميزت وطبعت الانهيار الجديد في مصر:

1-العنف الدموي في الشارع، الذي أدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في المدن المصرية (القاهرة- بورسعيد- السويس – الإسماعيلية)..ومقابل تحول التظارهات من (سِلْمية) إلى عنفية وهجومية ضد مقرات رسمية وأمنية، ووسط ظهور مظاهر جديدة أبرزها ظاهرة (بلاك بلوك) أو الكتلة السوداء -مجموعات كبيرة من الشباب الذين يرتدون الأسود والقناع على وجوههم- تحولت قوات الأمن والشرطة إلى استخدام مفرط للقوة، تكاد أن تتجاوز القوة التي استخدمت في قمع ثورة 25 كانون الثاني 2011. في وقت يلتزم فيه الجيش الحياد ولا يدخل طرفاً في الصراع الداخلي، ويرفض أن يوضع في مواجهة الشعب المنتفض، وهذا هو ذات الموقف الذي اتخذه في العام 2011.

2- حالة الإرباك والتخبط التي يبدو عليها الرئيس محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة في إدارتهما للأزمة، متحركين على خطين متوازيين: التشدد في الشارع وإعلان حالة طوارئ ومنع تجول من جهة، والاستعداد للحوار مع قادة المعارضة، من دون التزامات وشروط مسبقة من جهة أخرى.

3- بالمقابل، المعارضة متهيبة للموقف ومربكة في التعاطي مع التطورات المتسارعة على الأرض، ومن الواضع أن الشارع سبق قيادة المعارضة، وهو الذي يقود موقفها السياسي بدلاً من أن تقوده.. والآن تجد المعارضة نفسها محرجة بين أن تستجيب لدعوة الرئيس مرسي إلى الحوار وتخسر ثقة الشارع،وبين أن تجاري إيقاع الشارع وتندفع في التصعيد، وتحدد له سقفاً سياسياً في ثلاثة اتجاهات:

– إسقاط حكومة حزب الحرية والعدالة التي يرأسها هشام قنديل، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني.

– إسقاط الدستور الذي لم تشارك في صياغته، أو الدفع باتجاه إدخال تعديلات عليه.

– انتخابات رئاسية مبكرة تقصر ولاية الرئيس محمد مرسي.

على كل حال، لقد ألغت المحكمة الدستورية العليا موعد الانتخابات البرلمانية الذي حدده الرئيس مرسي في نهاية شهر آذار الجاري، وذلك لإفساح المجال أمام المزيد من التشاور والتوافق على موعد يناسب جميع القوى والأحزاب والمكونات السياسية والاجتماعية المصرية.. ولكي يتم انتخاب برلمان جديد، واعتماد دستور جديد. وسيكون على ذلك البرلمان مواجهة التحديات الجمّة التي تمر بها البلاد في ظل مناخ سياسي من عدم الثقة بين جميع القوى السياسية الفعالة على المسرح السياسي المصري، وربما يحافظ الإسلاميون على حضورهم المميز في الانتخابات التشريعية القادمة، إلا أنهم لن يحصدوا ذات النتائج التي حصلوا عليها في الانتخابات السابقة، مما قد يعمق الفجوة السياسية بين الإسلاميين والقوى العلمانية والليبرالية والشباب المهمشين من السلطة الحالية. الأمر الذي سيدفع المعارضة للاستمرار في نشاطها الهجومي، بينما يحاول الإسلاميون طرح صيغ توافقية لتخفيف حدة الاستقطاب السياسي الحالي.

وعلى الأغلب، ستمضي المعارضة في رفضها لمثل هذه الصيغ، لأنها تشعر بأن نقد الإسلاميين والرئاسة (برنامجياً ومنهجياً) أجدى من الدخول معهما في صفقات، لاسيما مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية التي تستخدمها المعارضة في سياستها الهجومية على حكومة حزب الحرية والعدالة، وبالتالي كسب تأييد الطبقات الشعبية المتضررة والتفافها حول برنامج جبهة الإنقاذ.

وما لم يُعد حزب الحرية والعدالة النظر بممارساته التعسفية والارتجالية ويكرّس القيم الديمقراطية والتشاركية كمنهج في تعاطيه مع الشأن العام، فإن مصر ذاهبة إلى جحيم آخر.

 

تونس.. تغيير النظام دون تغيير بنيته

بدا أن الوضع في تونس يتجه إلى التصعيد بعد أيام من اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد.. غير أن الحالة التونسية تقدم نموذجاً أكثر عمقاً من الحالة المصرية، فقد تغيَّر النظام بصورة شبه كاملة، من خلال إنهاء الحزب الخانق للحريات، وتشكيل مجلس تأسيسي، وتغيير الوزارة عدة مرات، إضافة إلى إحداث تغيير في تعاطي الإسلاميين مع القوى المناهضة لهم تاريخياً من العلمانيين واليساريين والليبراليين، وقدم الإسلاميون نموذجاً متقدماً إلى حد ما في تعاملهم مع القوى الأخرى، ولم يسعوا إلى الهيمنة أو الانفراد، وانخرطوا في شراكة وطنية سواء عبر حكومة الجبالي السابقة، أم عبر حكومة علي العريض الحالية. لقد دخل النموذج التونسي المرحلة الانتقالية، وحاول حزب النهضة تحويلها إلى مرحلة ثابتة ودائمة، ولكن نظراً لضعف بنية الدولة في عهد زين العابدين بن علي، واختلاف التوازن بين مؤسساتها، وضعف البنية الحزبية لنظام بن علي، لاعتماده على لفيف من المقربين، فإن محاولات إدخال الثورة في النفق الانتقالي باءت بالفشل لنضج القوى الثورية، وتفكُّك العناصر الأيديولوجية والاجتماعية للنظام الساقط، لذلك كان خروج تونس من عنق المرحلة الانتقالية سريعاً، وبأقل الخسائر، وقبل مرور عام واحد على انطلاق (ثورة الياسمين).

ويرى المتابعون للشأن التونسي أن التحول الديمقراطي في تونس كان سلساً نسبياً، مقارنة بالدول الأخرى التي مرت وتمر بمرحلة انتقالية، إلا أنها ستواجه ثلاثة تحديات رئيسة في العام ،2013 وهي:

– الاقتصاد الضعيف والمهمش.

– الاستفتاء على الدستور.

– انتخاب برلمان جديد وحكومة دائمة في جو من التوتر بين الإسلاميين والعلمانيين واليساريين.

ويشكل الشباب ودورهم تحدياً مصيرياً للحكومة التونسية، إذ بلغ معدل البطالة بين الشباب التونسي نحو 40%، كما يشكل عنف السلفيين توتراً سياسياً جلب مشاكل أمنية لا يستهان بها لتونس وطناً وشعباً، فقد (دمّروا الأضرحة الصوفية، وهاجموا السفارات، وتعرضوا لبائعي الكحول، واغتالوا القائد اليساري شكري بلعيد)، ولا يزال الشعب التونسي غير راضٍ عن الحكومة التونسية برئاسة علي العريض ووعودها بشأن وضع حد لتطرف السلفيين. إضافة إلى أن النقاش مازال محتدماً حول حقوق المرأة، وتنظيم وسائل الإعلام، وقوانين التجديف.. (وهي قوانين تعاقب من لا يوقر ويحترم الشخصيات المقدسة، أو الرموز الدينية، أو العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية).على أي حال، ستحاول التجربة الثورية التونسية تجاوز ذلك، وستكون تونس على الأقل خلال عام 2013 أفضل مما كانت عليه في عهد بن علي، إذ من المتوقع أن تصوّت الجمعية التأسيسية على المسودة النهائية للدستور في ربيع عام ،2013 أي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في بداية صيف 2013.

وخلاصة القول إن الثورتين المصرية والتونسية، وإن لم تكونا قد وصلتا بعد إلى تحديد مساراتهما، فإنهما نجحتا في رفع الحجب عن الشعوب لترى مساراتها وأهدافها. فقد أدركت الشعوب العربية أهدافها، وهي أنها لن تستبعد بعد اليوم. وعرفت مساراتها، وكان أهمها النزول إلى الشارع، ورفع الصوت في صورة سلمية تتجاوز كل تراث العنف الذي صبغ حياة العرب السياسية منذ قرن من الزمان.

العدد 1105 - 01/5/2024