أطياف سورية زيَّنتها… والآن خيَّبتها

(لم يكن في البال ما حدث في سورية بعد الأمان الذي عشناه)، هي الجملة التي تسمعها عند كل حديث يدور حالياً بين مجموعات الناس في سورية. وهناك العديد من الجمل الأخرى المتكررة في الشارع السوري وبين أطيافه. فحسب التوجه تتغير الجمل، فنسمع من جهة جملاً تقول (كفانا جهلاً حتى الآن بحقوقنا! كي نصبح شعباً يستحق الحياة نحتاج إلى التغيير الجذري! زمان الصمت على الظلم قد ولَّى). ومن جهة أخرى نسمع جملاً أخرى: (كانت سورية هي بر الأمان في ليلها ونهارها. ماذا يريد مدَّعو الحرية؟ هل الحرية تعني القتل والذبح أم تعني العهر؟ هناك بعض الأخطاء ولكن إصلاحها يحتاج إلى الوقت، وهم لا يمهلون الوقت). وجهة أخرى تقول (هل سيعمل كل الشعب محلّلاً سياسياً؟ نحن نبحث عن لقمة العيش، فما بالنا و بال السياسة!؟).

أزمة معقدة لا محالة، وبعيداً عن البعد السياسي المحض لها، وبعيداً عن الآراء السياسية في الخارج والداخل السوري، نتوقف عند الشعب، فالشعب لا يستطيع كله أن يعمل بتحليل السياسة، ولكن أليس من حقه وواجبه أن يفهم ويحلل ما يجري في بلاده ليحدد موقفه كمواطن؟! ويتأكد أنه يعيش كما يجب؟ أليس من الطبيعي أن يكون لكل مواطن فهم ما للوطن والمواطن والشعب؟ أيْ فهم لكل ما يخصه ككيان إنساني؟.

(وعي المواطن لمواطنته وإنسانيته)، هذا ما افتقدته الثقافة السورية وما افتقد معرفته الشاب السوري، وهذا ما لم يدرس في المدارس ولا في الجامعات ولا في الواقع السابق. هذا ما جعل الشعب يتخبط في وجهته، ويتبع الاتجاه الديني أو المناطقي أو الذاتي في الإحساس بالأزمة السورية، ويطالب بمطالب غير موجهة أحياناً، أو يبقى صامتاً أحياناً. فعند اندلاع الأزمة قال نسبة كبيرة من الشباب إن معظم الجهات الدينية بتعددها واختلاف مواقفها طلبت من الشباب الالتزام بمواقف معينة بما يتناسب مع مصالحها، بحيث أن أقليات منها ادعت أنها خارج اللعبة، لأنه لا مصلحة لها فيها، وجهات أخرى أكدت أن الأزمة طائفية، وهذا ما حدث في البدء. فالشباب امتثل لهذه الاتجاهات، وبعد التطورات الكبيرة والخطيرة التي حدثت في البلاد والوضع المتردي والتساؤل الشخصي الضمني عن الجهة الصائبة في الأزمة، عدل بعض الشباب آراءهم، وأدركوا أن هذه الجهات هي التي خلقت الطائفية في سورية نتيجة خوف بعضها وتخطيط بعضها الآخر. هذه الطائفية التي لم تكن موجودة سابقاً، وإن وجدت فكانت ضعيفة سطحية تنقشع عند المحن، فالوطن وطن الجميع.

وبالمثل كانت الكثير من المناطق والبلدات والقرى تتبنى رأياً واحداً على أساس طائفي أو معاد لاتجاه مناطق أخرى، و منها من اتخذ الحياد موقفاً له كي لا تصل الأزمة إلى بيوتها و أهلها. وهؤلاء هم الأخطر الذين كانوا على الحياد ولم يحاولوا البحث أو معرفة ما يحصل في بلادهم و بأخيهم السوري المشرد أو الموجوع، أو الدم الذي يهدر، ولا حتى أسباب ذلك. لم يكن في بالهم ذلك، حتى مستهم الأزمة، وهذا شرخ فكري كبير عند جزء من الشعب، شرخ إنساني عميق. بل أصبحت الأزمة تهم جزءاً منهم بعد الغلاء وانقطاع الغذاء والشعور بعدم الأمان واقتراب الخطر منهم. فكان همهم شخصياً محضاً، وهذا سبب جوهري من أسباب الأزمة الإنسانية التي تضاف إلى أزمة الوطن، وتزيدها ألماً على الشعب الذي يريد سورية في أعلى مقامات الحرية و الديمقراطية، سورية للشعب والإنسان.سورية ذات هوية واحدة برغم تتعدد أطيافها، التي تلون هذا الوطن، لا أن تخيبه.

كثير من الشباب دخلوا اللعبة بدافع تحريضي، سواء معارضة أو موالاة لأي طرف. وكثير من الشباب أصبح طموحهم هو انتهاء المعمعة دون التفكير بما بعد ذلك. ومنهم من كان موالياً لجهة ما، وبسبب القتل والدم عارض هذه الجهة. وبعد وصول الأزمة إلى هذه الحال. وصلت الحال أيضاً بالمواطن أن يفكر بالأزمة لأنها أصبحت تمس الجميع بلا استثناء. وتبقى الأسئلة عند الشاب السوري الذي يحاول أن يرى سورية جديدة تلبي شعبها: هل سيسلك الشعب مسلك المعرفة؟ وهل سيدرك الشعب حجم الأزمة الإنسانية التي ظهرت بوضوح في أزمة بلاده؟ هل سنبحث عما نريد كبشر دون أن نؤطر الحرية، بل أن نفهمها؟ هل سيتحاور الشعب على الأقل فيما بينه؟ هل سيصل إلى وقت يقدر به أن يقف يداً واحدةً قادرة على ردع كل القوى التي تطغى وتطمع؟ هل سيعرف كل منا ما يريده ويرمي كل الروتين والمسلمات البالية وينطلق من حاجاته كإنسان مواطن وحاجات مجتمعه وبلده؟ هل ستحترم أطياف سورية حاجات بعضها؟ وهل ستعود سورية مزينة بشعب -علاوة عن الطيبة التي يحملها – واع للتنوع والتعدد وعيا عميقاً هذه المرة؟

العدد 1105 - 01/5/2024