لوحات الفنان أنور الرحبي: ولائم بصرية ملونة على سطوح بيضاء

أقل ما يُقال في لوحات الفنان التشكيلي السوري أنور الرحبي القديمة والمتجددة، إنها ولائم بصرية ملونة، يعزف مقاماتها الشكلية توليفات رؤى على سطوح بيضاء. وهي أشبه باختراق بصري جمالي، مُتجاوزاً فيها حدود المحاكاة الصوريّة التقليدية. بل ترنو عوالم سرد بصري غير مألوف من حيث البنية التشكيلية، والرؤى المعرفية الجمالية وأساليب السرد بجميع مكوناته. يصوغها عبر لوحات سابحة في أتون الوحدة العضوية المتناغمة مع خصوصية تفرده في ميدانه، بنى شكليةً محسوبة المضامين واللحمة التشكيلية، خطاً ولوناً وأوصافاً شكلية متوازنة وموزعة ما بين خلفيات ثانوية وشخوص رئيسة ترقص في ملاعب حكايته البصرية.

 لوحاته متناسقة ومُعبرة عن جماليات الكلمات المكتوبة في مسرود القص والرواية والحكايات الشعبية التي حفظها عن ظهر قلب، وانعكاس جميل لوعيه البصري في ترجمان الأحاسيس، والتي ينهل من معينها الولود جُلّ مبتكراته الخطيّة والتصويرية. يستنسخها على طريقته التشكيلية وهواه الرومانسي، مقامات سرد بصري مدروسة ومتناسلة في عجائنه التقنية اللونية. فهو قارئ أدبي متمرس، وترجمان تشكيلي فارس في ملعبه التصويري. يصول ويجول في تبيان النقاط الجمالية المشتركة ما بين جماليات الأدب والكلمات المكتوبة والنصوص التشكيلية البصرية المسرودة.

 في لوحاته الخطيّة أي رسومه التمهيدية بأقلام الحبر الأسود، والتصويرية المنسوخة على قماش الخامات المستعملة يذهب فيهما بعيداً في مجاهل وصفه البصري الجامح. تارة ينهل رؤاه السردية من نهر أحباره السود الداكنة والمتدرجة المعانقة لشفاف الرماديات. وتارة تسبح في بحر أمواجه دائرته اللونية المتلاطمة مع أنين روحه المسبوكة بتشخيصية الرؤى المتولّدة من مضامين الروايات والقصص والشعر والأساطير الشعبية والحكايات التي استحضرها في لحظة زهو نفسي. يُعرج فيها على قص سوالفه الدمشقية المعشبة بأساطير شهرزاد، التي لا تنتهي مع إشراق كل صباح.

 لوحاته مفتونة بالأنثى، الأنثى الحبيبة والزوجة والصديقة التي تقف في محطات انتظاره الكثيرة، متوسدة عمائر بنيانه التشكيلي متأملة وسابحة في واحات أفقه الشكلي بجميع تنويعاته التقنية، لعلها تجد أليفها الموعود وملتقى أحلامها ممتطياً صهوة حصانه في سحنته السمراء التي أعطت الشمس العربية ألوانها الذهبية بعضاً من ملامحه. وتجعل لمؤتلفات المقولات الشعبية: الماء والخضرة والوجه الحسن زادها البصري. ولترقص الصبايا في مجون القصائد الشكلية رقصات السماح ورقصة ستي وسواها من ترانيم الياسمين الدمشقي العتيق. وهي لوحات شبقه في مضامينها وحركية عناصرها ومفرداتها، وميلان الأجساد المتجاورة والمرصوفة في بهاء التألق الشكلي، تحمل في ضلوعها عبق التاريخ السوري القديم، وتستحضر الأيقونات والرقميات والأختام الأسطوانية في سياق حداثة تعبيرية مكشوفة على الرمز، وحرية التعبير المتجاوز للمألوف الشكلي في التشكيل السوري المعاصر.

 مضامينه موصولة بالنسوة الحسان، يجعل منهن عشيقات وحوريات متراقصات في شعاب قصائده اللونية، يلبسهن دثاره التشكيلي وحسبته التقنية المُتسعة لجميع خطوطه المتسرعة والرصينة، والحاضنة لمساحات لونية ممتدة ومتداخلة تُساعد المتلقي على كشف مفاتن أسراره، عناقاً رمزياً لحدائق أفكاره ومطالعاته السردية، وخصوبة خياله. والمشغولة بيد مرنة طلقة وذاكرة بصرية خبيرة في ترجمة أحاسيسه وانفعالاته المتطاولة في حيز الرسوم والتكوينات التي تحتضن رموزه ومفرداته الجامعة لعشرات القصص والقصائد الشعرية والحكايات.

وجود الأنثى في عموم لوحات ضرورة حتمية، تستقوي بدربة الفنان وقدرته على حبك مفاتنه السردية وعجائنه التقنية، واحتواء فكرته ومواضيعه المفتوحة على مساحات الحلم  المتسعة لأيام خوالٍ، وتغدو عناصره ومكوناته أشبه بتذكرة عبور مجانية إلى حدائق لونية  لعاشقين كُثر سابحين في مدارات القصيدة التشكيلية بكامل زخرفها وجرأة صوغها. وكأنها مقطوعات موسيقية ملونة على سطح أبيض، متسامية المعاني والرمز والدلالة. وتجلب جميع مؤتلفات الدائرة اللونية ومشتقاتها الزاهية والداكنة في فسحة تعبيرية متواترة، تعكس حرفية ومهنية فائقة في ترجمة المنصوص السردي وتحويله إلى نصوص بصرية محلقة في مقامات البوح اللغوي الأدبي والتشكيلي بآن معاً.

العدد 1104 - 24/4/2024