عام آخر يمضي نحو المجهول

هاهو ذا عام آخر يمضي، ونحن في سورية نمضي نحو مصير مجهول.ما زلنا نحاول الوصول إلى مكان آمن،  وما زالت العراقيل مستمرة في وجهنا، وعلى الأخص الشباب-ات الذين ضاعت أحلامهم في ظل الضيق المادي الذي ألمّ بالبلاد كلها. فمنهم من ترك عمله، ومنهم من يعمل بنصف الأجرة، ومنهم من بدأ يخطط للهجرة إلى مكان آخر، ومنهم من هاجر فعلاً وبدأ حياته بعيداً عن الوطن.

لم يكن جيل الشباب في سورية قد عاش في بحبوحة ماديّة أبداً، لكن في فترة قصيرة مضت كان هنالك بصيص من الأمل يفتح أمام العديد فرصاً جديدة،  فالشركات الخاصة قد توسعت وبدأت الرواتب والأجور ترتفع، وبدأت المشاريع والأفكار تنتعش في السوق، فاستطاع البعض شراء سيارة، وبعضهم استطاع أن يشتري بيتاً بعد أن كان البيت حلماً صعب المنال. وبعضهم بدأ يقوم بمشاريع صغيرة ويشارك في مشاريع شبابية،  و بدأت بعض القوانين تتعدّل، وظهرت مراسيم هامة تنعش الاقتصاد والمجتمع، وتحرّك السوق على الرغم من عراقيل البيروقراطية والمركزية وغيرها التي كانت تقف في وجه التطوّر الذي بدأت ملامحه ترتسم. إلا أنه لم يتجسّد واقعاً ملموساً، فالفساد كان خانقاً جداً، ورغم هذا تغيّرت أحوال الكثيرين ممن يقولون اليوم: ما إن بدأنا نتنفس ونعيش كما نريد حتى حدث ما حدث.. أما المشكلة الحقيقة فلم تكن بالظرف المادي، ولا بالانفتاح على أسواق العالم بقوّة، بل كانت في الركود السياسي بين أوساط الشباب، وأمراض المجتمع التي كانت تتستر تحت عباءات مختلفة، منها الدين والعادات والتقاليد، وتتراكم عبر السنين لتشكّل مستنقعاً راكداً يصعب تحريكه. هاتان المشكلتان كانتا سبباً في كل ما يحدث الآن، بعيداً عن الغوص في الأسباب الأخرى التي يتحدث عنها بعض المحللين.

عندما يكون الشباب بعيداً عن السياسة إلى هذه الدرجة بحيث يرى نفسه في مكان آخر لا يعنيه كل ما يحدث هو في حقيقة الأمر، يساهم في تفاقم الأزمة لأنه لا يعرف بوصلة تدلّه على الطريق الصحيح، أو الطريق الذي يتمناه على الأقل.. عندما تصبح الأمراض المجتمعية بحكم الطبيعية، كعمل الأطفال في الشارع وأسوأ أشكال العمل للأطفال والتشرد والتسوّل والعنف والتمييز ، فإن هذا سيؤثّر في طريقة التفكير والنمو الإنساني والمحاكمة العقلية ، عندما يكون انتهاك الحق اعتياداً لأسباب أهمها الجهل بالحقوق، فإنه من الطبيعي أن يشارك هذا الشاب -ات في انتهاك الحق دون أن يدرك أنه ينتهكه ويعتدي على حق الآخرين.

و يضاف إلى كل ما سبق الافتقار إلى النقاش والحوار، بدءاً من البيت مروراً إلى المدرسة وانتهاء بالمجتمع كله. فكثيرة هي الحقائق التي لم تناقَش أبداً لأنها تعدّ حقائق مقدسة لا يجوز النقاش بشأنها. وكثيرة هي الأفكار التي لم يخطر ببال أحد أن يتداولها أو يتبادلها مع آخرين، كشكل الدولة التي يرغب الجيل الجديد أن يعيش ضمنها، وهل يناسبه دولة دينية أم مدنية أم علمانية، بل كثيرة هي المغالطات ما بين هذه التعريفات والمسميات، لأنها لم تُدرس دراسة صحيحة، ما يكشف فقر المناهج التربوية وقصورها ، ويظهر ذلك جلياً في مناقشات الفيس بوك الوسيلة الهامة في تبادل الآراء والأفكار التي تتميّز بالحريّة اللامحدودة، والتي قد تصل إلى تبادل الاتهامات والشتائم، لكنها برغم من ذلك تساهم في تحريض الذهن على أفكار جديدة وإزالة الركام عن حقائق مسلّمة، لتظهر بعد النقاشات أنّه لا توجد حقيقة أبدية في الحياة، وكل شيء قابل للنقاش والتغيير.

مضى عامان والحياة في سورية تزداد تعقيداً ، وجيل الشباب هو الأكثر تأثّراً لأنه في مرحلة هامة من حياته هي مرحلة تكوين الذات، فخسارة العمل أو الدراسة أو الأسرة هي أسباب قد تدفعه نحو طريق مجهول لم يكن يوماً يريده أو يحلم به، وبرغم ذلك مازال الطريق مفتوحاً، فالفرص لم تنتهِ والنقاشات الحامية التي خرجت اليوم الى العلن ولم تعد في طي المحرّمات والممنوعات ستعمل على التغيير. فشبابنا قادر على ذلك، وسوف يكوّن المجتمع والدولة التي تناسب حضارته وتاريخه، سيخرج من عباءة المقدسات نحو أفق واسع يرسم حدوده بنفسه، يصنعه بنفسه، سيكون شريكاً بعد اليوم في كل شيء، ولن يرضى أبداً بمن يكبله بقيود.

العدد 1105 - 01/5/2024