جولة الرئيس أوباما في المنطقة.. بين الملهاة السياسية والاستحقاقات السلمية

تثير زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المنطقة اهتمام الأوساط السياسية والإعلامية العربية والغربية، التي تقرأ مدلولاتها ونتائجها على خلفية الزيارة الأولى للرئيس الأمريكي في بداية عهده الأول.. ففي عام 2009 وجه أوباما رسالته إلى العالم الإسلامي، مفتتحاً كلمته في جامعة القاهرة بإشارته إلى أنه (أتى بحثاً عن بداية جديدة إلى العالم الإسلامي). حينذاك كان هذا العالم يعيش في ظل أنظمة مختلفة عن تلك التي تحكم اليوم، وكان الجيش الأمريكي لايزال منتشراً انتشاراً واسعاً في العراق.

ماذا تغير منذ عام 2009 حتى اليوم؟ مع زيارة أوباما الثانية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث أخذ المكان الذي ألقى فيه خطابه الثاني من مقر جامعي في مدينة القدس المحتلة منحى مختلفاً.. فماذا قال عن إسرائيل التي تحتل كامل فلسطين، وهضبة الجولان، وأجزاء من الأراضي اللبنانية؟

الكثير من التطورات والمتغيرات حدثت بعد الخطاب الأول الذي كان أشبه بخطاب وداعي لعدد من الأنظمة العربية، ولاسيما أن الرئيس الأمريكي خصص حينذاك فقرات من خطابه (لتشجيع الديمقراطية). لكن هذه الدول لاتزال تعيش على وقع التظاهرات واللااستقرار.. والأهم أن أوباما جاء إلى مثلث (إسرائيل وفلسطين والأردن)، حيث غياب الاهتمام الأمريكي بملف الصراع العربي- الإسرائيلي.. وقد تكون الزيارة بحسب الأوساط السياسية والإعلامية المهتمة والمتابعة، هي المرة الأولى التي ينحسر فيها الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط إلى هذا الحد منذ ثمانينيات القرن الماضي.

من هنا رصدت هذه الأوساط كلمة الرئيس أوباما في أكثر من نقطة، تؤشر إلى طبيعة تعاطي الإدارة الأمريكية في العهد الثاني لها.. وهو ما ركزت عليه معظم مراكز الدراسات والبحث العربية والغربية، أي (عملية السلام الشرق أوسطية)، وتوجيه رسالة إلى إسرائيل عبر زيارة رام الله وعمّان، والملف الإيراني النووي، ومصير العلاقات الإسرائيلية – المصرية. إلا أن ما يشكل درجة أعلى من الاهتمام، يكمن في رؤية الإدارة الأمريكية للمتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية، وما يمكن أن يرسمه الرئيس الأمريكي في خريطة الطريق الجديدة!

ملهاة المفاوضات الجديدة

معظم القراءات والتوقعات التي عالجت مدلولات زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة كانت مصحوبة ب(خيبة الأمل)، ولا تبعد إلى أكثر من أنها (جولة سياحية). فقد أعد بنيامين نتنياهو استقبالاً (طقوسياً دافئاً) بعد أربع سنوات عجاف من العلاقة الفاترة بينه وبين الرئيس أوباما.. فسارع بداية إلى إنجاز تشكيل الحكومة الجديدة، التي ستكون وظيفتها الفعلية منع أي تقدم على طريق السلام وحل الصراع العربي – الإسرائيلي، حتى ولو شدد أوباما على تذكير الإسرائيليين بأهمية الوصول إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين على أساس (حل الدولتين).

ربما استطاع نتنياهو استبعاد مشاركة الأحزاب الأكثر يمينية وتشدداً في حكومته الجديدة، غير أن حلفاءه الجدد الذين يشكلون الثقل الأساسي فيها، لا يختلفون كثيراً عن تلك الأحزاب المتطرفة، مثل زعيم حزب (البيت اليهودي) نفتالي بينيت، وزعيم حزب (هناك مستقبل) يائير لابيد.. ويتكفل هؤلاء باستخدام (الفيتو) ضد أي تقدم في عملية السلام.. فبرنامج حزب (البيت اليهودي) الانتخابي قائماً على الدعوة إلى ضم 60% من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل، ويعلن هذا الحزب صراحة بأنه يستبعد قيام دولة فلسطينية (لمئتي سنة قادمة). أما حزب (هناك مستقبل)، وعلى العكس ما يبدو من برنامجه غير المتشدد، فإن هاجسه الأساسي وتركيزه ينصب على (نسيان الصراع مع الفلسطينيين)، والالتفات إلى الداخل الإسرائيلي، وإجراء (إصلاحات اقتصادية واجتماعية تلبي مطالب تظاهرات الربيع الإسرائيلي) التي خرجت في شوارع تل أبيب وبعض المدن الأخرى على مدار عام ،2012 وكانت للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل خالية من أي هتافات وشعارات تدعو إلى تسوية مع الفلسطينيين، أو إلى مستقبل العلاقات الإسرائيلية – العربية.

وعلى النقيض من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي يضعه نتنياهو وائتلافه الجديد في أسفل سلم أوّلياتهم، تبرز الأزمة مع الملف النووي الإيراني في مقدمة هذه الأوّليات.. وهنا أيضاً لا يتفق أوباما ونتنياهو على موقف واحد، على الرغم من أن اللغة التصعيدية حيال طهران تكاد تكون القاسم المشترك بينهم.. ففي حين لايرى زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو سوى (الحل العسكري) لهذه الأزمة، يكرر الرئيس الأمريكي أوباما أن (كل الأوراق على الطاولة)، وذلك في محاولة للوقوف في الوسط بين رغبة إسرائيل وبين قرار الإدارة الأمريكية باللجوء إلى (الحل الدبلوماسي) لتسوية هذا النزاع.

(حل الدولتين).. إلى أين؟!

على الرغم من إعلان الرئيس الفلسطيني أبو مازن أثناء مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس أوباما في رام الله، عن تخوفه من (إمكان القضاء على أي فرصة لقيام دولة فلسطينية مستقلة) في ضوء استمرار عمليات التوسع الاستيطاني فوق 60% من أراضي الضفة الغربية، فإن الإصرار على التمسك بما بات يعرف ب(حل الدولتين) يغلق الطريق على التفكير في الخيارات الاستراتيجية في ظل انسداد الأفق أمام تحويل مشروع سلطة الحكم الذاتي المنقوص إلى دولة مستقلة على كامل الأراضي المحتلة منذ عام ،1967 إلى جانب ضمان عودة اللاجئين إلى الممتلكات والديار التي هجروا منها عام ،1948 وممارسة حق تقرير المصير في آن واحد.. وبهذا الصدد قال الرئيس أبو مازن: (تجعل إسرائيل حل الدولتين غير ممكن، من خلال استمرار سياسة الاستيطان، وهي تحاول بكل الوسائل أن تقضي عليه، ولكن بالنسبة لنا فإن خيارنا الرئيس هو حل الدولتين).

وإذا أضيف إلى قائمة الخيارات المحظورة في التفكير السياسي الفلسطيني، الاستعصاء في مسار تحقيق المصالحة الوطنية، وبضمن ذلك إعادة إحياء (م.ت.ف) وتفعيلها، فماذا يبقى من خيارات أمام الفلسطينيين سوى بقاء الوضع القائم على حاله، وبما يستدعيه من حفاظ على منسوب من الاتصالات الفلسطينية- الإسرائيلية – الأمريكية، عبر الرسائل والمفاوضات غير المباشرة، وكذلك الحفاظ على أقصى درجات (الهدوء) على خطوط التماس وجدار الفصل العنصري، وفي داخل مدينة القدس، بل تكثيف الاتصالات مع الجانب الأمريكي لإقناع حكومة نتنياهو بالاستجابة لمطالب الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام، قبل أن يعود قادتهم إلى موقعهم في قيادة الانتفاضة المقبلة وتوجيهها.

لا يمكن اعتبار جولة أوباما في المنطقة نهاية المطاف في (ملهاة الاستحقاقات السلمية)، فثمة استحقاق آخر وليس أخيراً، وهو انتظار أفكار ومقترحات وآلية عمل، قال الرئيس أبو مازن إنه يمكن أن يتقدم بها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بالتنسيق مع الرباعية الدولية.. على الرغم من أن التطورات في الحلبة السياسية الإسرائيلية جاءت كي (تمد ملهاة الاستحقاقات السلمية)، بما تحتاج إليه من وقود للاستمرار إلى ما بعد الولاية الثانية للرئيس أوباما.. فالصفقة التي أبرمها نتنياهو مع ائتلافه الصهيوني الجديد، أنعشت آمال بعض الفلسطينيين والعرب بشأن إمكان نجاح (عملية التفاوض)، وهذا (تطور) حاول الرئيس الأمريكي توظيفه أيضاً في مؤتمره الصحفي المشترك مع الملك الأردني عبدالله الثاني في عمان، بقوله: (إن الولايات المتحدة تأمل أن يقود الائتلاف الموسع في إسرائيل، إضافة إلى دور الأردن في اتخاذ خطوات لدفع محادثات السلام مع الفلسطينيين قدماً).

لكن حتى إذا لم تنجح هذه المساعي والمحاولات كلها في توفير متطلبات إعادة استئناف المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة، وفق ما تطالب به القيادة الفلسطينية (م.ت.ف) بشأن وقف الاستيطان، والإقرار الإسرائيلي بحدود الدولة الفلسطينية المستقلة، انطلاقاً من خط الرابع من حزيران ،1967 فهناك سيناريو آخر يجري التلويح به لشراء مزيد من الوقت حتى انعقاد الدورة العادية القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتقدم بطلب منح فلسطين وضعية الدولة الكاملة في جميع مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية، على غرار ما حدث في منظمة (اليونسكو).

خيار المقاومة الشعبية

غير أن ثمن الحفاظ على الوضع الراهن بالاستحقاقات السلمية المصنفة في سياق السياسة ذات الطابع الانتظاري، سيكون باهظاً جداً. فمثل هذا الوضع يمكّن بنيامين نتنياهو وائتلافه من توفير أقصى درجات الاستقرار ل(حكومة الصفقة) من أجل مواصلة سياسة فرض الوقائع على الأرض بقوة السلاح والاستيطان والجدران العنصرية، والتوجه نحو خيار عسكري عدواني، يطول قطاع غزة والضفة الغربية، في ظل سياسة فلسطينية تتلهى باستحقاقات تقطيع الوقت، وتقطع الطريق على إمكان تبني خيارات استراتيجية تغادر مربع المفاوضات العبثية المرتهنة شكلاً ومضموناً بالاختلال القائم في ميزان القوى، وتسعى لتغييره بواسطة إعادة النظر في شكل السلطة الفلسطينية ودورها ووظائفها بما يحول دون تحولها إلى وكيل للاحتلال، ويطيل بقاءه بدلاً من إنهائه، وتعمل على بناء خيار المقاومة الشعبية الشاملة للاحتلال في (ميادين تحرير) فلسطينية في القدس ومحيطها، وعلى تخوم المستوطنات والجدار العنصري. وتستند قبل ذلك إلى تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة، وإنهاء حالة الانقسام، وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها التحرري الوطني الجمعي في الوطن والشتات، والاستفادة مما هو آت في المنطقة العربية من ترسيخ لقيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، والتنمية التي تمثل جوهر القضية الفلسطينية من جهة، والمعادية في جورها لمعاني وممارسات الاحتلال والاستبداد والعنصرية التي تمثلها إسرائيل من جهة أخرى.

العدد 1105 - 01/5/2024