ثورات تبحث عن مفكريها..!

شهد العالم منذ فجر التاريخ العديد من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي غيرت شكل العالم عن طريق نشرها قيماً ومبادئ جديدة، بسبب رفض الواقع القائم الذي تمخض عن ظلم سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو عرقي أو ديني أو اقتصادي أو في أي منحنى من المناحي الأخرى للحياة. وامتازت كل من هذه التحولات (الثورات) بنموذج اختلف عن غيره، ولكنها التقت جميعها بتشكيل رؤى ثقافية في أذهان من شاركوا فيها، متأثرين بفلاسفة ومفكرين بارزين، واضعين أبعاداً فكرية وفلسفية كالتي أحاطت بالثورة الفرنسية الهادفة إلى المساواة بين الطبقات ونشر العدالة الاجتماعية، على سبيل المثال.

استندت الثورة الفرنسية إلى العديد من الكتاب والمفكرين والسياسيين النشطين، إضافة إلى صحفيين وشعراء وفنانين. وأتت هذه الثورة ممن يسمون بفلاسفة المقاهي، ومنهم فولتير وديدرو ومونتسكيو وجان جاك روسو، وغيرهم من عمالقة الثقافة والأدب والفلسفة. وقد تبنى هؤلاء أفكار عصر التنوير في أوربا ونقلوها إلى الشارع والجماهير، فصارت مطلباً شعبياً في فرنسا، فبدأت الثورة تشق مسارها رويداً رويداً، وأخذت تعرف طريقها في وقت كان الثوار يسيرون في طريق واضحة المعالم رافعين شعار الحرية والإخاء والمساواة. فكان الشعب الفرنسي مستوعباً ومدركاً لمعنى هذا الشعار.

لقد تحركت الجماهير كلها في ضوء هذا الفهم، ولم تتخبط في توجهاتها ولم تتناقض مصالحها إلى الحد الذي حدث مؤخراً في العالم العربي لما يسمى (الثورات) العربية في العامين الأخيرين، فمازال دور المثقفين في هذا الحراك قيد الكثير من التساؤلات والتجاذبات، خاصة في وجود استفسارات كثيرة عمن أشعل فتيل تلك (الثورات)، أتراه البوعزيزي؟!

كان المثقفون على الدوام في الصفوف الأولى للتحركات الشعبية، ولكنهم اليوم باتوا ينحصرون في حجرات البث الفضائية. وأمسى الشباب ذو العنفوان والطاقة وصاحب المهارة أسرى الشبكة العنكبوتية يقبعون خلف شاشاتهم معتبرين أنفسهم (ثواراً).

إنَّ الشارع العربي مازال بحاجة لأن ينتشر فيه فكر التنوير، الذي يعني تحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، والتخلص من سيطرة السلطة المطلقة أينما وجدت، بين الحكام أو بين رجال الدين. وإضافة إلى المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس دون النظر إلى الجنس أو العرق أو الدين، وأيضاً تحرير العقل لكي يعمل بحرية وأمان دون خوف أو إرهاب فكري أو وصاية من أحد. فلا فائدة من (الثورة) على القيادات السياسية في عالمنا العربي في ظلِّ انتشار الجهل والتخلف والتطرف الديني بين السواد الأعظم من الشعب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى عدم التوافق على التعايش ضمن مكونات المجتمع الواحد من مختلف الفئات الاجتماعية والتيارات السياسية للاختلافات الموجودة كالإثنية والطائفية وغيرهما.

حملت معظم الثورات عبر الأجيال شعارات وكلمات براقة تنادي بالحرية وتطالب بالعدالة، ولكن هل تحققت هذه الشعارات، أم أنها وقعت في مطب الشعارات الجديدة التي رفعها الثوار؟ القمع والفساد والذل والقتل والخراب والدمار والاستبداد والانهيار؟ ما أدى لخروج معظم الثورات عن مسارها الصحيح وظهرت ديكتاتوريات جديدة، فكما يقال: (سجين اليوم هو ديكتاتور الغد)!

العدد 1107 - 22/5/2024