لوحات الفنان ممدوح قشلان تقاسيم شرقية بأساليب حداثة تكعيبية

مما لا شك فيه، أن الفنان التشكيلي السوري ممدوح قشلان  يُعد ظاهرة ثقافية متميزة في مساحة الفنون التشكيلية والتربية السورية، وعلامة فارقة في ميادينها المختلفة، وله فيها مآثر كثيرة. وكذلك الأمر في الصحافة المحلية ومجالات تأليف الكتب التخصصية مجموعة تذكارات، وهو واحد من أركان المدرسة التكعيبة السورية بالفن، ومرجعية بصرية لعشرات الفنانين التشكيليين السوريين.

 هو من مواليد مدينة دمشق عام ،1929 تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1957. مؤسس ونقيب للفنون الجميلة السورية عدة دورات، وشغل موقع مشرفٍ تربويٍّ اختصاصي للتربية الفنية في محافظة مدينة دمشق حتى تقاعده. مارس فنون الرسم والحفر والتصوير الملون منذ تخرجه، وأقام أكثر من أربعين معرضاً فردياً، وله مشاركات في المعارض العربية والدولية، وقد حصل على مجموعة جوائز وشهادات تقدير، وهو صاحب ومدير صالة إيبلا للفنون في مدينة دمشق.

  لوحاته مأخوذة بمواضيعها المحلية بما تشكله ذاكرة المكان السوري البصرية، كمرجعية موصولة بجماليات الطبيعة السورية الساحلية والسهلية الداخلية والجبلية، والمتغنية بمآثر المدن الكبرى والريف السوري ومسائل التراث الشعبي وما تحفل فيه ذاكرته المبصرة والبصيرة بمدونات المناظر والمشاهد والشخوص. يُترجم معالمها الشكلية ومفردات جملها الوصفية في بساطة التأليف المساحي والتوزيع المتوازن داخل أحضان تكويناته، تهيم باتساع المساحات الممتدة السطوح فوق خاماته. تأخذ بناصية الحداثة التكعيبية أسلوباً مميزاً يكشف عن خصوصية تفرده وتجربته في ميدانه.   

  دمشق القديمة في جمالياتها المألوفة وحركة ناسها الطيبين هي مدينته المُدللة، التي تجدها فصيحة البيان البصري والشكلي في مواسم ابتكاره، وتحتضن جدران المتاحف المحلية والعربية والدولية وهواة الفن عشرات القصائد البصرية التي ابتدعتها مُخيلته الواسعة، ويده المقتدرة على رسم وتصوير لوحات حافلة بأغنيات المكان الدمشقي، في مساجدها وأسواقها وغوطتها ومرابعها السياحية وناسها، عبر ذاكرته المفتوحة على فضاء الحرية ووظيفة الفن الاجتماعية المنسوجة في مقامات تصوير فني وشكلانية خارجة عن سرب الآخرين، تلوذ بمعابر التلخيص والإيجاز الشكلي لمواقع وشخوص. فحبال الود والمحبة والأُلفة ما بين الفنان (قشلان) ومدينته دائبة الإيقاع والحركة والتوالد، مربوطة بمقامات سرد بصري وحبكة شكلية جمالية جامعة، تعرف عناصره ومفرداته التشكيلية طريقها داخل أروقة وأزقة لوحاته التصويرية.

  تُدخلنا مباشرة في متن مؤثراتها الحسيّة، وبث ملامح الانفعال بلا مواربة أو استئذان، وتُقربنا خطوة من واحة رغباته الذاتية، وعمائر بوحه المعرفي والجمالي. وتقودنا في لحظة التأمل والمواجهة إلى مدارات حساسيته وانفعاله الصادق بالأشياء والرموز، عبر توليفات اللون وصراحته المتداعية فوق سطوح الخامة، وتنويعات الأماكن والشخوص. لا تُبقي أية مساحة للمصادفة بل هي نتاج وعي بصري بقدرته على تأليف حالة تعبيرية، مُنفعلة بطاقة اللون وجغرافية الفكرة الموصوفة، وخلق نقاط تفاعل مع مضمونها. وطريقته التقنية في نسج علاقات لونية متآلفة ومتعارضة في كثير من الأحوال، تدور في تجليات المشابهة الشكلية الحسيّة المُفارقة لواقعية التصوير الكلاسيكي، لا تخرج عن ملونات دائرة الألوان الرئيسية في مشتقاتها متنوعة الحدة والحساسية.

 تُقدم ولائمها البصرية المُشبعة بالاتجاهات التعبيرية ذات النكهة التكعيبية، التي تُحيل سطوح اللوحات إلى بنية هندسية متراكمة المكونات، تجمع في أحضانها جميع تجليات المُسطحات الهندسية المتناسلة من أشكال المستطيل والمربع وما بينها من تداخلات بينية شكلية وجمالية، وتبوح بتجليات الهوى والعشق المرصع بوظيفية الفن الاجتماعية، التي تستحضر جميع مكونات الحياة اليومية من مهن وصنائع، وأوابد تاريخية وحضارية، ومناظر طبيعية وطبيعة صامتة، وشخوص من أطياف طبقية متعددة، موزعة ما بين البداوة والريف والمدنية، تصوغها يد الفنان بحرفية واضحة وتمكن أسلوبي درج عليه منذ عدة سنوات، وأمست طريقته في التعبير والتوصيل والإحالة البصرية.

  لوحاته عموماً هي حالة من المداد البصري، المفتوحة على شهية التلقي، والمحمولة بشرعية المحاورة ما بين ثقافات الشعوب، وتجارب فنية تشكيلية متنوعة المشارب التعبيرية والتقنية والخلفيات، تُمثل جسراً بصرياً متماسك المواصفات الشكلية، تجمع في داخلها مفهومَيْ (الأصالة والحداثة) في الفن، وتفتح بوابات المساءلة والتأمل والوقوف على جماليات الصورة، وعلاقتها الطبيعية والمُباشرة بالواقع الاجتماعي الذي يعيش الفنان في طياته. أصالة مُنحازة في دلالاتها الجمالية وأبعادها التقنية إلى جماليات وطن وأمة وتاريخ شعب عربي عريق. وحداثة فنية متناسلة من دروب المعاصرة الأوربية الغربية في الفن والمتوارية خلف الاتجاهات التعبيرية التكعيبية.

العدد 1105 - 01/5/2024