الوعد العربي: تبادل الأراضي… ودولة يهودية!

وزير الدبلوماسية الأمريكية جون كيري مجدداً في المنطقة، وذلك ابتداء من 21/5/،2013 للقاء المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين.. تأتي الزيارة عقب محادثات أجراها كيري مع المسؤولة عن ملف المفاوضات في الحكومة الإسرائيلية الحالية تسيبي ليفني في روما يوم 8/5/،2013 وسط استمرار التسريبات الإعلامية حول ملامح خطة الطريق الأمريكية لاستئناف المفاوضات.

وتنص الخطة الأمريكية، بحسب تلك التسريبات، على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام ،1967 وتطبيق فكرة تبادل الأراضي بين الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي)، في حين يساهم حلف شمال الأطلسي في موضوع الترتيبات الأمنية، وخصوصاً في منطقة غور الأردن، إضافة إلى اعتراف الدول العربية ب(يهودية دولة إسرائيل)، على أن تتولّى السلطة الوطنية الفلسطينية المسؤولية الأمنية في الضفة الغربية، بحيث تشمل مناطق (الرام وعناتا وأبو ديس والعيزرية) الواقعة داخل حدود مدينة القدس الشرقية.

في المقابل يتعهد الفلسطينيون بعدم التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أو إلى منظماتها الدولية للحصول على الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية، وعضوية فلسطين العاملة في العديد من الهيئات والوكالات والمؤسسات التابعة للمنظمة الدولية.. وفي خطوة التفافية على الاعتراف ب(يهودية دولة إسرائيل)، يقترح جون كيري أن يتم ذلك من جانب الدول العربية وليس السلطة الوطنية الفلسطينية تحديداً.

إخراج المبادرة العربية من غرفة الإنعاش

اليوم وبعد مرور أحد عشر عاماً على طرح المبادرة العربية للسلام، عادت إلى الأضواء تلك المبادرة التي دخلت إلى غرفة الإنعاش المركّز (لتعتاش على الأجهزة الاصطناعية). فقبل الدخول في سبر غور هذه العملية، لابد من التذكير بأن المناخ السياسي في البلاد العربية بات مأزوماً، فإضافة إلى تخاذل القادة والزعماء العرب وتواطئهم، قرر المجتمعون في القمة العربية الأخيرة في الدوحة إرسال وفد إلى واشنطن للتداول مع الإدارة الأمريكية حول المبادرة العربية، وإعلان الموافقة على مبدأ (تبادل الأراضي) بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حال التوصل إلى تسوية بواسطة المفاوضات التي يمكن أن تستأنف برعاية أمريكية.

لقد جاء التنازل العربي متزامناً مع جهود الوزير الأمريكي كيري لوضع خطة طريق للسلام العربي- الإسرائيلي متطابقة في نسختها الأصلية، مع المطالب والرؤية الإسرائيلية.. وبات جون كيري يتبنى مفهوم (السلام الاقتصادي) الذي صاغه وطرحه، ويستمر في طرحه، زعيم اليمين الإسرائيلي المتشدد نتنياهو، وتتلخص ملامحه في ضخ مليارات من الاستثمارات في الاقتصاد الفلسطيني لإنعاشه، وخلق فرص للعاطلين عن العمل، وحث الشركات الأمريكية على أداء دور مركزي في هذا التوجه.

لكن.. لماذا كان سهلاً حصول هذا التجديد في (إحياء العظام وهي رميم)، أي بث الحياة مجدداً في مفاصل المبادرة العربية السلمية وتضمينها ما هو أخطر!؟

لعل السبب الأساس يكمن في أن السلطة الوطنية الفلسطينية وخلال مفاوضاتها مع زعيم حزب كاديما السابق إيهود أولمرت، وافقت على المبدأ نفسه، أي (تبادل الأراضي)، الأمر الذي نال إعجاب الولايات المتحدة وأوربا على حد سواء. إذاً فإنه من أجل التسوية السلمية، فالعرب يوافقون على قضم الاحتلال مزيد من الأراضي الفلسطينية، على اعتبار أن الأرض فلسطينية في كل الأحوال، وهذا هو السياق للتذكير بأن أرئيل شارون عندما كان رئيساً للوزراء في إسرائيل، حصل في نيسان عام 2004 على رسالة الضمانات من الرئيس الأمريكي بوش الابن، التي أكدت (حق إسرائيل في المحافظة على الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية) في أي حل سياسي قد يجري التوصل إليه.

والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: إذا جرت الموافقة على تبادل الأراضي، فمن يضمن أن لا تجرؤ إسرائيل على المطالبة أيضاً بتطبيق مبدأ التبادل على السكان؟

بكلمات أخرى: ما الذي يمنع إسرائيل- بعدما حول العرب قضية فلسطين إلى مزاد علني- من أن تطالب بترحيل الفلسطينيين الذين يعيشون داخل ما يسمى (الخط الأخضر) مقابل إعادة قطعان من المستوطنين اليهود إلى داخل (الدولة اليهودية النقية)؟!

توافق اليمين واليسار الصهيوني حول الدولة اليهودية

من الخطأ الاعتقاد أن يهودية الدولة هي مسألة تخص اليمين الإسرائيلي فقط، إذ إنها مسألة إجماع داخل المجتمع الإسرائيلي، لكن ذلك لا يعني أن هناك تطابقاً كاملاً بين الصيغة التي يرتئيها اليمين المتشدد، وتلك التي يرتئيها اليسار الليبرالي، على ضآلته وهشاشته وهامشيته.

إن القضية الأساس التي يلتقي حولها اليمين واليسار تتعلق بالإبقاء على أغلبية يهودية داخل إسرائيل، وبالتالي معارضة مطلقة لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين.. كذلك يلتقي الطرفان على موضوعات أخرى أقل أهمية، مثل دور اللغة العبرية في الحياة العامة، وعلاقة إسرائيل بيهود المهجر، غير أن نقاط الاتفاق يجب ألا تخفي نقاط الخلاف، وإن كانت هذه الأخيرة آخذة في الاضمحلال.

من الأمور التي يطمح نتنياهو لتحقيقها من وراء وضع هذا المطلب على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، هو تحقيق إنجاز يتعلق بمستقبل الدولة الإسرائيلية ومصيرها وطبيعتها في النقاشات داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.. فهو بذلك يطلب إسكات الأصوات جميعها داخل مجتمعه (الصوت الفلسطيني في إسرائيل أولاً، وبعض اليهود غير الصهاينة ثانياً) التي تنادي إما بدولة كل المواطنين، وإما بدولة ثنائية القومية، أو بكلتيهما معاً.. وبالتالي فإنه يهدف بواسطة اعتراف رسمي من العرب، إلى إخماد النقاش داخل المجتمع، فإذا كان صاحب الشأن قد قبل بالدولة اليهودية، فما بالكم أنتم تعارضونها في الداخل؟ أي أنه يريد الاستعانة بقوى خارجية على حسم نقاش داخلي.

يبقى من المثير التعامل مع طلب الاعتراف (بحقوق اليهود مجموعةً قوميةً)، وخصوصاً عندما يأتي الأمر من الليكود، الوارث الطبيعي ل(حركة حيروت). لقد كتب جابوتنسكي في سنة 1927 مقالته الشهيرة حول (الجدار الحديدي)، والتي فحواها: أنه لا طائل في محاولة استرضاء العرب بصورة عامة، لأن ذلك يعد استهزاء بهم.. فالعرب كبقية الشعوب الأصلية، لن يقبلوا الوجود (القومي اليهودي)، وكذلك التنازل عن وطنهم، وبالتالي يجب (ضربهم بقوة وإقامة جدار حديدي) بين الدولة اليهودية التي ستقوم وبينهم.. إلا أن أهم ما في المقالة هو غياب الحاجة والرغبة في الوصول إلى اعتراف العرب بحقوق اليهود، فجابوتنسكي نفسه لم يعتقد أن الجلاد بحاجة إلى اعتراف من الضحية به، إذ يكفيه اعتراف الأسياد الأقوياء وراء البحار به، ولتذهب الضحية إلى الجحيم!

إنه لمن المثير للانتباه أن اليمين الإسرائيلي لا يكتفي بلغة القوة والأمر الواقع، فهو يريد التحول إلى لغة الاعتراف، أي إلى (لغة الحقوق)، فهو يريد اعترافاً عربياً وفلسطينياً ب(حق اليهود في تقرير المصير في دولة خاصة بهم). إن نتنياهو يريد من وراء ذلك في حالة الوصول إلى حل، أن يكون هذا الحل نهائياً، أي أن يحل قضية عام ،1967 وكذلك قضية عام 1948. وبهذا المعنى فإنه يريد (حلاً جذرياً)- حسب الرؤية الصهيونية- لكن من دون العودة إلى الجذور.. ويريد إقفال الملف التاريخي قبل أن يفتحه أصلاً، ويريد من الفلسطينيين التنازل عن حق العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هُجّروا منها، قبل أن يعترف بوجود حق كهذا.. إلا أنه على الرغم من هذا وذاك، فإن الانتقال إلى خطاب الاعتراف وخطاب الحقوق يجب ألا يخيف الفلسطينيين.. إن أي حل تاريخي مع إسرائيل، وليس مجرد تسوية، عليه أن يوضح ما هي حقوق جميع أطراف النزاع؟ فأهمية خطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف تكمن في أنه يعيد الصراع إلى أبجدياته الأولى، ويطرح السؤال عن حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والقومية المشروعة، وبالتالي يعيد المشهد في فلسطين إلى ما كان عليه قبل عام ،1948 شاء ذلك أم أبى!

إن اليمين الصهيوني العنصري، من دون أن ينتبه، يجعل حق الشعب الفلسطيني في فلسطين موضوعاً مسلماً به، فضلاً عن أنه يدعو العرب والفلسطينيين إلى التدخل في طبيعة (الحق اليهودي) المزعوم وشكله.. إن اشتراط نتنياهو في جوهره تعجيزي، ويهدف إلى عرقلة المفاوضات من جهة، والإقرار بأن الحصول على اعتراف السيد وراء البحر، لا يكفي لإنجاح مشروع (الدولة اليهودية)، وأن لا بديل من اعتراف الضحية نفسها من جهة أخرى.

لا حل وشيكاً في الأفق للقضية الفلسطينية، وهذه الحكومة ذات اللون اليميني العنصري غير مؤهلة للتقدم في أي مفاوضات جدية، كما أن إسرائيل اليوم بيسارها ويمينها، غير مؤهلة أو قادرة من دون ضغط خارجي، وروافع داخلية فلسطينية.. مثال: (المقاومة الشعبية المفتوحة)، على الوصول إلى أي حل يضمن الحد الأدنى من العدالة التاريخية، وبالتالي لا ضرورة لتقديم تنازلات عربية مجانية.. فالمفاوض الفلسطيني يستطيع قبول تحدي اليمين الصهيوني العنصري والاشتباك معه من دون خوف، غير أن هذه ليست مهمة سهلة، لأنها تفرض على المفاوض الفلسطيني أن يحدد شروطه لإنجاز الحل العادل والدائم والشامل لصراع طال أمده لأكثر من خمسة وستين عاماً.

العدد 1105 - 01/5/2024