الوهابية في الممارسة

إذا كان التياران السلفيان، تيار الوهابيين وتيار الإخوان المسلمين، يلتقيان، اليوم، في حلبة التآمر على سورية، فإن تصادم أجندة كل منهما مع الآخر راحت تطفو على السطح. هذا الخلاف والصراع سيسهم، دون شك، في فضح وتعرية أهداف الإسلام السياسي على اختلاف فصائله، ومتاجرته بالدين، لإخفاء أهدافه الأنانية من وراء ذلك، ويسرّع في افتضاحه وإفلاسه.

باختصار شديد، الوهابية هي نتاج ثنائي، من الفقيه السلفي المتزمت محمد عبد الوهاب، المشرّد من الإحساء من جانب، ومن محمد بن سعود، شيخ القبيلة في نجد، الطامح إلى السلطة من الجانب الآخر؛ أي ازدواجية الطموح للسلطة بغطاء إيديولوجي. كان ماركس قد لاحظ، في هذا المضمار، أن (جميع الحركات السياسية في الشرق تتخذ شكلاً دينياً).

وبينما تحرّم الوهابية تقديس الأولياء وترفض التصوّف والإيمان بالشفاعة والوساطة بين الإنسان وربه، فإنها – من الجانب الآخر – لا تحرّم الظلم والطغيان، وتؤكد ضرورة طاعة الحاكم ولو كان ظالماً وخارجاً عن قواعد الدين. ومن جانب ثالث، لا تعترف بالآخر وتتخذ منه موقفاً عدائياً إلى حد التكفير، وما يتبع التكفير حتى إباحة دم الآخر. وإذا كانت الوهابية – السعودية قامت بمحاولتين لأخذ السلطة في نجد والتوسع خارجها قد انتهتا بالفشل، فإن المحاولة الثالثة تمّت بدعم بريطاني وتكللت بالنجاح لا في نجد فقط، بهزيمة آل رشيد، وإنما بالاستيلاء على الحجاز، كذلك، وطرد الهاشميين منها، وإعلان قيام الدولة العربية السعودية رسمياً عام 1932. خلال الصراع بين السعوديين والهاشميين، كان للبريطانيين لدى كل من طرفي هذا النزاع مبعوث يبتزّ التنازلات. كان (فلبي) لدى الطرف السعودي، بينما كان (لورانس) لدى الطرف الهاشمي.

ومعلوم أن البريطانيين انتزعوا، في هذا الإطار، من عبد العزيز آل سعود وثيقة رسمية منه تؤيد قيام دولة يهودية في فلسطين. وفي العام ،1945 عندما بدا، في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية، أن الولايات المتحدة غدت القوة الإمبريالية الأولى، بلا منازع، التقى الملك عبد العزيز آل سعود بالرئيس الأمريكي – آنذاك – روزفلت على ظهر مدمرة أمريكية في قناة السويس، وعقب ذلك جرى تضمين ما تمّ بينهما في هذا اللقاء من تفاهمات في اتفاقية جرى التوقيع عليها في نفس العام بين الدولتين المعنيتين سميت اتفاقية (كوينسي).

وبموجب هذه الاتفاقية تلتزم واشنطن بحماية سلالة آل سعود مادام آل سعود يمنحون الأمريكيين حق الوصول إلى نفط شبه الجزيرة العربية. وقد مثّل هذا تحوّلاً مكشوفاً من الاعتماد على البريطانيين إلى الأمريكيين.. وقد بقي الأمر كذلك عقوداً طويلة.

ولكن كما هو معروف، فالتاريخ يعرف حقائق دائمة لكنه لا يعترف بحقائق أبدية. واليوم، في ظروف الحراك الشعبي في العالم العربي، وتوجّه واشنطن الواضح للتعاون مع حركة الإخوان المسلمين، وعلى نطاق المنطقة، فإن آل سعود راحوا يخشون من أن يطولهم ويشملهم هذا التحوّل في تحالفات واشنطن في المنطقة؛ بمعنى آخر: أن تراهن واشنطن على حركة الإخوان المسلمين بديلاً لهم كذلك، على غرار ما جرى في مصر وتونس، وغيرهما. وتعبيراً عن القلق من هذا التحوّل في الموقف الأمريكي، وفي محاولة يائسة لإفشاله أو حتى عرقلته، ساندت السعودية، في انتخابات الرئاسة المصرية، الفريق أحمد شفيق، بينما ساندت واشنطن وقطر محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين. وعقب تسلّم مرسي لكرسي رئاسة جمهورية مصر، اندلعت نشاطات إرهابية في شبه جزيرة سيناء، قُتل فيها عدد من جنود الجيش المصري. وحينذاك، راجت شائعات تتهم عناصر وهابية تدعمها السعودية بالمسؤولية عن تلك النشاطات، بهدف التشويش على مرسي وإرباكه منذ البداية.

على صعيد آخر باشرت دولة الإمارات العربية المتحدة، التي بدت في هذه الحالة كالواجهة السياسية للسعودية، حملة شعواء على حركة الإخوان المسلمين وعلى الرئيس مرسي. ففي 7/10/2012 اتهم وزير خارجية دولة الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، حركة الإخوان المسلمين، قائلاً: (.. فكما تعرفون أن فكر الإخوان المسلمين لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا يؤمن بسيادة الدول، ولهذا السبب ليس غريباً أن يقوم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالتواصل والعمل على اختراق هيبة الدول وسيادتها وقوانينها). وبمجرد إعلان فوز مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية هاجمه وحركة الإخوان المسلمين بشدة، الفريق ضاحي خليفان، قائد شرطة إمارة دبي قائلاً: (العزاء للأمة العربية والإسلامية بفوز الإخوان، فإنهم ليسوا من الإسلام في شيء، استخدموا الإسلام ولم يخدموه. (وطالب مرسي بتقبيل يدي ملك السعودية، مثلما قبّل حسن البنا يد الملك عبد العزيز). وواصل حملته بعدئذ معتبراً الإخوان المسلمين (عصابة إجرامية) ومحرّضاً قائلاً: إن (عش الدبور الإخونجي لا بد من هدمه)؛ وكان قد دشن هجومه على حركة الإخوان المسلمين بالنقد المرير والمكشوف لواشنطن التي لا تصون العهود.

إن الصراع الذي اندلع بين هذين التيارين الرئيسيين من الإسلام السياسي يشمل اليوم، جبهات متعددة، منها الصراع على زعامة الإسلام السنّي. وإذ وصل الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم في مصر، يتطلّعون لدعم ذلك بالوصول إلى رئاسة الأزهر، لتحدي حكام السعودية على زعامة الإسلام السني. وقد أصبح مرشحهم معروفاً لهذا المنصب وهو القرضاوي، الذي يعلن أن أمنيته الوصول إلى هذا الموقع ولو في آخر يوم من حياته.

وتعبيراً عن قلق السعوديين من هذا التحدي، ندّد مفتي السعودية، مؤخراً، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، أمام شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيِّب، بمن يتظاهرون بالإسلام ويدّعون الإصلاح، داعياً إلى الحذر منهم. والمقصود بالنقد هم جماعة الإخوان المسلمين – كما أشارت صحيفة (القدس العربي) الدولية التي نقلت الخبر. أما مؤسسة الأزهر، فتقاوم الضغوط المتصاعدة من حركة الإخوان المسلمين التي تسعى للسيطرة على مفاصل القرار في هذه المؤسسة العريقة. وإذا كان هذان التياران السلفيان يلتقيان، اليوم، في حلبة التآمر على سورية، فإن تصادم أجندة كل منهما مع الآخر راحت تطفو على السطح.

وقد بدا الخلاف والصراع بينهما في تشكيل (الحكومة السورية المؤقتة) وإعطاء مقعد الدولة السورية في الجامعة العربية للمعارضة السورية. وقد أحدث هذا شرخاً بين قطر والسعودية، الذي انعكس مباشرة على صعيد الميدان العسكري في سورية، كما انعكس بأشكال أخرى، منها عدم اعتراف (الجيش الحر) بالحكومة المؤقتة، والعزلة التامة التي تطوق رئيسها (هيتو)، وإصرار الخطيب على الاستقالة من رئاسة الائتلاف، وهو الذي أعلن لدى اختياره لهذا المنصب عن تطلعه لمفاوضة النظام السوري لوضع حد لسفك الدماء.. وغير ذلك من مظاهر التعارض والخلاف.

وفي المحصلة، فإن الخلاف والصراع، المرشح للتفاقم والاحتدام، بين هذين التيارين السلفيين: الوهابي – السعودي ومن يسير في ركابه في الخليج وغيره، والإخوان المسلمين، المدعومين من قطر وتركيا.. إن هذا الخلاف والصراع سيسهم، دون شك، في فضح وتعرية أهداف الإسلام السياسي على اختلاف فصائله، ومتاجرته بالدين، لإخفاء أهدافه الأنانية من وراء ذلك، ويسرّع في افتضاحه وإفلاسه، وفي تحقيق الفصل بين الدين والدولة، أي الإصلاح الديني الذي تأخر في العالم العربي وهو أحد أسباب تخلفه، وفي الوقت ذاته صيانة الدين من هذا الابتذال.

 

 

من مداخلة قدمها الكاتب في الندوة حول الوهابية في معهد إميل توما الأسبوع الماضي.

العدد 1105 - 01/5/2024