أوركسترا البيت العربي ما بين العنف وثقافة الروح

أقام نادي (أوركسترا البيت العربي) في اللاذقية، ضمن فعالية أربعاء الأدب في الأربعاء الثاني من شهر آذار، أمسية أدبية شارك فيها الأستاذان بولص سركو وعلي حميشة، وحضرها مجموعة من أصدقاء النادي الذي يضم عدداً من مثقفي اللاذقية المهتمين بالأدب والفن التشكيلي والموسيقا والسينما.

عُرِفَ عن بولص سركو إنتاجه الوفير وعمله الدائم في الفن التشكيلي. فقد أقام ما يقارب عشرين معرضاً. ورغم أن مسيرته الفنية بدأت بفنيْ الشعر والرسم، إلا أن إبداعه اتجه بالكامل نحو الرسم والفن التشكيلي على حساب الشعر. لكنه في هذه الأمسية شارك ليس بوصفه فناناً تشكيلياً بل بوصفه شاعراً، فقرأ عدة قصائد من مجموعته (منقل فحم). وفي هذه القصائد لا يغادر بولص عالم التشكيل أبداً عندما ينتقل من الرسم إلى الشعر، كل ما هناك أنه يستبدل الكلمة باللون لكن يبقى التصوير لديه الوسيلة الأجمل للتعبير عن علاقته مع الكون ومع مشاعره الخاصة يظهر جلياً في (أمام انعكاس وجهي على نافذة كوخ قديم). ولا يمكن للون عند بولص أن يغادر الكلمة، إنه التكوين الأساسي والمفردة الأولى في خياله، و هو الوسيط النزيه في التعبير عن مشاعره. وتتميز قصائده جميعها بالحسية فهو يصوغ اختباراته الجسدية والروحية و النفسية بمفردات تضج بالحياة والصور البسيطة المعبرة، لا يبتعد عن الناس. فالمثقف ذو الفكر اليساري يبقى منحازاً للناس البسطاء المهمشين: (انحنيت وأنا في طريقي…ليس احتراماً…ليس احتراماً…بل لأنبش من شقوق الإسفلت.. حروفاً لمن لم يراهم أحد… ولم يسمع بهم أحد). وربما في أكثر من مرة يسخر بولص من الحضارة ومعظم ما قدمه الإنسان ليمجد الطبيعة:

(كأن القديسين قد علّبوكِ….كسمكة زينة في حوض صغير… ثم نصبوكِ كالرخام الثمين.. فوق بحيرة من نور متبدد…).

أما الأستاذ علي حميشة الشاعر و القاص والفنان التشكيلي، فقد قدم في هذه الأمسية قصتين: الأولى بعنوان (امرأة مقمطة في تابوت) من مجموعته (الوجه وعذاب الظل)، وفي مقدمتها:

(هزتني بعنف، كنتْ مضطرباً يلفني غموض بارد… جاهدت مراراً لكي أفتح عينيّ… لكن صعوبة ما كادت تشلّني، أخيراً نجحت… كان الجو صقيعياً فدلفت بسرعة إلى الداخل..).

 والأخرى قصة جديدة لم تنشر بعد بعنوان (في مملكة الهلام)، وهي قصة متخيلة عن مملكة شعرية مائية، ومنها نقتطف هذا المقطع:

(الفرزدق وجرير كانا سيدَيْ القعدة دونما منازع عندما وصلنا، لقد لاحظت ذلك من النظرةِ الأولى… انتبهت إلينا ليلى الأخيليّة سريعاً، فأقدمت مرحبة بنا، وكانت تجلجل كعادتها بأساورها الهلامية… أخذتني من يدي على جنبٍ بلطفٍ شديد، همست لي: كيف وصلتَ إلى هنا؟

قلت: كنت على ظهر يخت أطعم سمكة سورية مريضة في حوض زجاجي.. أنت تعلمين أنَّ هناك سمكة سورية بهذا الاسم، وهي جميلة جدّاً وتتجول وحيدة وغير صالحة للأكل.. ثم جاءت لا أدري عفاريتكم الزرق على ما أظنّ، و أنزلتني إلى هنا بلمحة برق…).

وعلي الذي يتعامل في أعماله الفنية التشكيلية ببساطة شديدة و جمالية خاصة، معتمداً بعض عناصر الطبيعة من مقذوفات البحر إلى الحصى والصخور، وحتى إنه قد يجد طريقته الخاصة في استنبات نباتات يلعب بتكوينها لتخرج على شكل منحوتات طبيعية جميلة. فهو فنان بالفطرة، نجده في تعامله مع الكلمة يدخل عوالم أخرى أكثر تعقيداً وأكثر غموضاً وأكثر ألماً. كما في شعره الذي يتميز به عن معظم شعراء التسعينيات بالتعامل مع عوالم داخلية شديدة التوتر والقلق، فهو شاعر لا يخجل من تعرية نفسه أمام قارئه مانحاً إياه فرصة مشاهدة رغباته وهواجسه وعوالمه التحتية ككائن إنساني يتلمس أبعاد وجوده. و ربما نستشعر هذا الأمر في قصصه أيضاً، كما في قصته الأولى (امرأة مقمّطة في تابوت). بينما ينحو قليلاً نحو السريالية في قصته الثانية (في مملكة الهلام ) التي لا ينسى فيها أبداً كونه شاعراً أولاً يبحث عن مكانه الخاص بين شعراء قدامى، وربما شاعر سوري ثانياً في زمن سوري مختل ومريض لا يمكنه التعبير عنه إلا بلغة سوريالية.

ويستمر ضمن فعالية أربعاء الأدب في اللاذقية بحث عن منفذ باتجاه ثقافة اللاعنف بالكلمة والحب…

العدد 1105 - 01/5/2024