من الصحافة العربية العدد 587

الثورة وبناء عقل مصر المبدع

نجح الشعب المصري بثورته التاريخية الممتدة من كانون الثاني /يناير 2011 إلى حزيران /يوليو ،2013 أن ينقذ بلادنا من نظام سياسي مستبد قائم على التمييز بين المواطنين على أساس الجنس والدين والطبقة والعرق والمذهب، استخدم الرصاص وسلاح الدين للتخويف والتهديد لكل من يختلف معه.

نجحت الثورة سياسياً، ووضعت خريطة طريق مرحلية في حاجة إلى تطوير دائم لتواكب أهداف الثورة. وقد تعلمنا من دروس الماضي أن الثورة السياسية لاتحقق أهدافها دون ثورة في الثقافة والتعليم والتربية والقيم، بحيث نخرج من عصور الظلام والتعصب الديني والجنسي والطبقي، إلى عصر المعرفة والمساواة والعلم.

الثورة تعني سقوط النظام الحاكم لا رأسه فقط (مبارك أو مرسي)، وهذا يعني سقوط الدستور القديم. مطلوب العمل من الآن لتشكيل لجنة شعبية ثورية من الشباب والنساء والرجال، المسلمين والمسيحيين، لكتابة دستور جديد يحقق الحرية والعدالة والكرامة والمساواة الكاملة بين المواطنين جميعاً، وعلى رأسها المساواة بين النساء والرجال في قوانين الدولة والأسرة.

لقد دفعت المرأة المصرية من دمها وحياتها ثمن الثورة مثل الرجل المصري، لهذا يجب النص في الدستور الجديد على المساواة الكاملة بين النساء والرجال في الحياة العامة والخاصة. لذلك مطلوب إشراك النساء والشابات في كل لجنة ومجلس بنسبة لا تقل عن 30 في المئة وقد تزيد، لا يكفي إصدار إعلان دستوري أو عمل إصلاحات لبعض مواد الدستور القديم.

نحن نعيش الشرعية الثورية، وهي لا تعرف الإصلاحات الجزئية بل تنشد التغيير الجذري، يعني بناء نظام جديد، ومؤسسات دولة جديدة، تشريعية وتنفيذية وقضائية تخدم الشعبَ، لا الحاكمَ الجالس على العرش. خسرنا (بعد ثورة يناير/كانون الثاني) معركة (الدستور أولاً)، بسبب سيطرة الإخوان المسلمين وأتباعهم من الأحزاب القديمة والجديدة، ورغبتهم في فرض الانتخابات بالقوة والمراوغة.

هناك اتجاه اليوم، كما حدث في الماضي القريب، (من جانب الأحزاب المدنية والدينية السلفية) للتضحية بحقوق النساء بطريقة هادئة ناعمة، وإبعادهن عن مراكز القرار تحت اسم التوافق الوطني. قد يسمحون لامرأة واحدة أو اثنتين (مجرد عينة) لتمثيل النساء، وهذا إهدار لحق نصف المجتمع (45 مليون امرأة) من أن يشاركن بتمثيلٍ عادل يتناسب مع قوتهن العددية والفكرية في بناء مصر المستقبل.

وبالطبع تحاول قوى الثورة المضادة في الخارج والداخل إجهاض ثورة يونيو/حزيران ،2013 كما حدث منذ سقوط حكم مبارك في 11 فبراير/شباط ،2011 نلاحظ كيف حاولت الحكومة الأمريكية التمسك بحكم الإخوان المسلمين تحت اسم شرعية الصندوق، وهددت بقطع المعونة، وتجاهلت الشرعية الثورية التي فرضتها إرادة الشعب المصري الحي المتحرك في الشارع. هكذا تعودت الحكومة الأمريكية منذ عصر السادات في السبعينيات (بداية المعونة الأمريكية لمصر) أن تنظر إلى الشعب المصري كأنه مستعمرة مستعبدة خاضعة مع رئيسها وحكومتها لأوامر البيت الأبيض، رغم أن هذه المعونة كانت تخدم المصالح الأمريكية لا المصالح المصرية.

هذه الثورة الشعبية الهائلة قادرة على تحرير مصر من المعونات الخارجية، ومنها المعونة الأمريكية، وتحرير مصر من مفاهيم الاستعمار القديم والجديد، ومن القوى المهيمنة عالمياً وعربياً ومحلياً. هذه الثورة منذ 30 يونيو/حزيران تقول إن الشعب المصري قادر على إنتاج فكره وإبداعه وعلمه وطعامه وملابسه وكل ما يريد، لكنه أجبر منذ حكم السادات على أن يعيش على الاستيراد من الخارج، لا على الإنتاج المصري الزراعي والصناعي والفكري والثقافي والتعليمي والإعلامي.

أصبح الإعلام المصري تابعاً للإعلام الأمريكي، وأصبح باراك أوباما يرسل إلينا مبعوثاً كي يطور التعليم في مصر. أنفقت حكومة باراك أوباما ملايين الدولارات لتدعم حكم الإخوان في مصر، وقد سقط حكمهم بقوة الشعب المصري ضد الإرادة الأمريكية والإرادات التابعة لها. وسوف يسقط الفكر الإخواني في العالم كله، مع تنظيماتهم وفروعهم التي امتدت من التنظيم الأم في مصر. هدف الولايات المتحدة هو حماية مصالح إسرائيل وتقويتها علمياً واقتصادياً ونووياً ضد بلادنا، فهل يصدق أحد أن الولايات المتحدة تريد تقوية مصر علمياً وتعليمياً أو عسكرياً أو اقتصادياً؟

لقد تعاون بين الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي والحكومات المصرية على مدى العقود الأربعة الماضية، من أجل تقسيم الشعب المصري طائفياً، وتحجيب عقله وتغييبه (ليسهل السيطرة عليه)، وتخويفه من نار الجحيم وعذاب القبر، ومحاربة العقول المصرية المفكرة، ومصادرة أعمالها، وخنق صوتها، وتقديمها للمحاكمات (قانون الحسبة) بتهمة الكفر وازدراء الذات الإلهية أو الذات الجمهورية، مات بعض هؤلاء المبدعين من الرجال والنساء (جسدياً أو معنوياً) في المنفى خارج الوطن أو داخله، وشوّهت سمعتهم وأقصوا من الساحة الثقافية والأدبية والفكرية على مدى أربعين عاماً وأكثر.

نحن في حاجة إلى ثورة فكرية ثقافية اجتماعية تعليمية تربوية تواكب الثورة السياسية، نريد تغيير القيم والمفاهيم القديمة القائمة على الخضوع والطاعة والفزع من العقل النقدي المبدع. تعلمنا من التاريخ أن الثورة السياسية سرعان ما تجهض، إن لم تدعمها ثورة في الثقافة والتعليم والتعلّم وبناء عقل شجاع جديد.

نريد تشكيل لجنة من عقول مصر المبدعة القادرة على وضع دستور جديد، فالدستور هو أساس الدولة، هو الحصان الذي يجر العربة، والعقول في القانون والسياسة مع العقول في الفلسفة والتاريخ والاجتماع والأدب والفن والموسيقي.

وَضْع الدستور الجديد ليس عملية قانونية فحسب، بل يشمل جوانب العقل والتفكير والشعور والخيال والإبداع.

نوال السعداوي

(الحوار المتمدن)، 11/7/2013

 

الولايات المتحدة بنداً في خريطة الطريق

لن نصل في مصر إلى مصالحة وطنية ونهاية سعيدة للمرحلة الانتقالية، إلا إذا تحرر السياسيون المصريون والجهاديون، الأنصار منهم والمعارضون، من عقدة الحاجة المستمرة إلى إرضاء الولايات المتحدة والخوف المرضي من غضبها.

قضينا أياماً غالية، بالدماء التي أريقت والأرواح التي زهقت والوقت الذي بدد. قضينا أياماً نتمرد ونثور ونعد بيانات ونحشد القوات والناس، ونراقب الحشود المتجمعة في ميادين العاصمة والمدن الأخرى، نصورها ونقارن بين الصور. كانت معنا وهزتنا حتى الأعماق مشاعر الشعوب في كل مكان، وبخاصة الشعوب العربية، وكانت رسالتها واضحة وتوقيتها رائعاً. جاءت تبلغنا أن (ثورتكم أيها المصريون مستمرة كما كنا نأمل، وسنقف معكم لوقف نزف الكرامة والحرية والاستقلال الذي تتعرض له ثوراتنا). هزتنا حتى الأعماق قوة المشاعر وصدق المؤازرة، فزادت قامتنا علواً وتضاعفت حماستنا، واستعدنا ثقتنا في القدرة على التغيير بأعمال ثورية في حال تعطلت قدراتنا الدستورية. عشنا لحظات رائعة ونحن نرى الوطن يتفتق عن إبداع جديد. ومع ذلك، وفي وسط تلك اللحظات الرائعة، كانت عيون وآذان كثيرة ترصد بتوجس وشكوك تصريحات وأفعال فريق ثالث في مكان بعيد، ترصدها في عواصم الغرب وبخاصة في واشنطن. كثيرون بين المبتهجين والغاضبين انشغلوا عن أفراحهم وأتراحهم برصد مواقف الولايات المتحدة والرسائل الفاضحة التي لم تتوقف قناة (CNN) عن بثها في لحظات حاسمة.

آن لهذه الحالة من الارتهان أن تنتهي. لا ننكر أو نتجاهل حقيقة أن قوى السيطرة والهيمنة العالمية غيرت أساليبها. هذه القوى لا تمارس الاحتلال المباشر لفرض التبعية المطلقة ولا تبعث بأساطيلها ومدافعها لدك الحصون وإجبار الحكام على توقيع وثيقة خضوع وخنوع، ولا تحاصر قصور السلطة لإجبار المسؤولين على تغيير عقيدتهم الاقتصادية فيغلقون المصانع أو يستبدلون زراعات بزراعات أخرى.

هي الآن تحاصر الفرد، فهو الهدف وليس الدولة. تضغط عليه بأساليب مبتكرة فتتنصت على اتصالاته لتسيطر على مكامن حياته الشخصية من أسرار وأفكار وطموحات. وإن تمرد أحد عملائها أو استيقظ ضميره وهاله ما فعله بغيره من بني البشر الآمنين في بيوتهم انقضّت عليه حكومة دولة عظمى وأجهزة أمنها مثلما تفعل مع المجرمين العتاة أو الإرهابيين القتلة. هكذا تعاملت مع الشاب إدوارد سنودين. لم تراع مكانة إيفو موراليس، رئيس بوليفيا، ولا حرمة طائرته ولا اعتبارات القانون الدولي، فطاردته في أجواء عديد الدول الأوربية، حتى حط بطائرته مرغماً في النمسا، مقراً أمام العالم بأسره بأن القوى الدولية المتسلطة لم تعجز عن ابتكار أساليب حديثة لممارسة الهيمنة والطغيان على الشعوب والحكام الأضعف.

نحن أيضاً، متمردين كنا أم ثواراً أم مجاهدين أم دعاة ومبشرين أم مواطنين أثرياء وفقراء وعسكريين ومدنيين، نقر ونعترف أن مصر تعيش منذ ثلاثين أو أربعين عاماً دولة مرتهنة لدى الولايات المتحدة الأمريكية. أكثرنا، وبيننا من يصدر أصواتاً ثورية ويتصرف تصرفات غاضبة ويضيق بحال بلده المتدهور، وقد يشكو من وضع التبعية والانكسار، وبيننا من استسلم فتوقف عن الشكوى وامتنع عن الغضب. هذا وذاك يتعامل مع الهيمنة الأمريكية على مصر باعتبارها قدراً محتوماً وعنصراً ثابتاً كالنيل والصحراء وغيرهما من العناصر التي تشكل أصالة مصر وديمومتها، عناصر لا يسعى أو يحلم الإنسان المصري بتغييرها. أشك في أن أحداً من المسؤولين فكر خلال العقود الأخيرة، أو يفكر الآن، في ضرورة إدخال تغيير على العلاقة المصرية الأمريكية. أشك في أن أحداً قدر له أن يحمل هذه الأيام عبء التخطيط لنهضة مصر ومستقبلها سوف يخطر على باله أن يضع علاقتنا بالولايات المتحدة بنداً أو محطة أو قمة منحنى في خريطة طريق يجري حالياً رسمها.

أتساءل، إن كان حقاً جائزاً لقادة أو نخبة حاكمة رسم خطة قصيرة أو طويلة الأمد تهدف إلى وضع الأسس لدولة متحضرة ومستقلة ومنتجة، بينما تجد نفسها مقيدة الحركة والإرادة بنصوص معاهدة دولية، ومرتهنة بشروط واقع تفرضه معونة سنوية منتظمة، ومكبلة تكبيلاً لا يرقى إلى إحكامه الشك بخرائط وقواعد كافية في حد ذاتها لهتك أواصر الرابطة التي ربطت لآلاف السنين شبه جزيرة سيناء بالوطن الأم. مصر عاشت مقيدة أربعين عاماً في علاقة شاذة مع دولة عظمى قبل أن تنشب ثورة شعارها الكرامة، كرامة الوطن وكرامة المواطن، وها هي ذي تنطلق بكل النيات الطيبة لترسم معالم طريق تقدمها، فإذا بها تجد نفسها مكبلة. هل ترسم وهي مكبلة فتكون النتيجة خريطة لأربعين عاماً أخرى لا تختلف عن الأربعين عاماً الماضية، أم تقرر أن يكون فك القيود وتحرير الإرادة بنداً أساسياً من بنود بناء هذا المستقبل؟

من حق هذا الشعب الذي قاسى الأمرين أن يعرف أن المحصلة النهائية للسياسة الخارجية الأمريكية في باكستان وأفغانستان والعراق وتونس وسورية وفلسطين واليمن، على امتداد العشرين عاماً الأخيرة، كانت بكل الحسابات والمعايير كارثية بالنسبة إلى شعوب هذه الدول.. هذا الشعب من حقه أن يطلب من قادته الجدد وقادة الولايات المتحدة تقديم كشف حساب عما جنته شعوب الدول التي خضعت لتجارب أمريكية لإقامة أنظمة حكم تلتزم مناهج ما أطلقت عليه الإسلام السياسي، وشعوب خضعت لتجارب أخرى في الاقتصاد والهندسة الاجتماعية. من حقه أيضاً أن يطالب قادته والقادة الأمريكيين أن يعيدوا النظر في العلاقة الأمريكية المصرية والتفاوض لإقامة علاقة مختلفة على أسس تضمن احترام كرامة مصر والمصريين.

لن تهدأ أزمتنا الراهنة أو تجد حلاً لها مادامت القوى السياسية ترفض مناقشة الآثار كافة، المترتبة على ممارسة هذا النمط من العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، ومادامت ترفض أي فكرة أو نداء يدعو إلى إزالة صفات الديمومة والقدسية والاستثنائية عن هذه العلاقة. أتمنى أن يسفر عن خريطة الطريق ما يضمن للمصريين عدم تكرار المشهد المؤذي للكرامة والوطنية المصرية، مشهد مسرح العرائس حيث احتشدت أجهزة في واشنطن خلال الأسبوعين الأخيرين ممسكة بخيوط تحاول بواسطتها تحريك دمى في مصر، ونشطت دمى في مصر تستعجل التحريك.

جميل مطر

(السفير)، 11/7/2013

العدد 1105 - 01/5/2024