هنري أليغ الشيوعي الجزائري الفرنسي الأممي

حتى الرمق الأخير، استمرّ في النضال ضد كل أشكال الاستعمار والإمبريالية والاستعباد والقمع.

حمل رسالته من لندن، حيث ولد في عام ،1921 إلى باريس، مسقط رأس والديه، ومن ثم إلى الجزائر التي اتخذها وطناً ثانياً له في عام 1939 والتي ناضل، كشيوعي وكصحافي ومقاوم، من أجلها ومن أجل حرية شعبها وتقدمه. لم ترهبه لا كل محاولات إسكات الصوت الحر وإخفاء الكلمة الحرة التي تمثّلت في صحيفة (الجزائر الجمهورية)، ولا كذلك الاعتقال وما يترافق معه من آلة التعذيب والقتل الكولونيالية.

صمد في المواجهة غير المتكافئة وخرج منها منتصراً، ليتابع النضال من أجل تحرر الإنسانية من نير الطغيان والعبودية والاستغلال.

قلة هم من يعني اسم هنري أليغ شيئاً لهم في بلادنا، على الرغم من أن هذا الرجل واجه، من أجل الشعب الجزائري الذي انتمى إليه بقلبه وعقله، المستعمرين من أبناء وطنه الذين لم يأبهوا لكونه فرنسي المولد والهوية، فعذبوه… حتى ملامسة الموت. ولم ينج إلا بفضل الكتاب – أو الكتيب – الذي هرّبه من سجن (البيار) ليفضح أمام الملأ جرائم السلطات الفرنسية داخل المعتقلات في الجزائر خلال النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين.

كتابه (La Question) لا يزال بعد خمسة وخمسين عاماً يلهم المعتقلين في سجون الديكتاتوريات المختلفة، من فلسطين إلى الخليج، ومن أفغانستان إلى الولايات المتحدة، مذكّراً بالثورات التحررية الكبرى التي انطلقت، بعد الحرب العالمية الثانية، من فيتنام إلى مصر والجزائر ومن بعدها كوبا، لتنير وجه العالم، ولتظهر أن إرادة الشعوب لا بد منتصرة مهما طال الزمن وغلت التضحيات.

ماذا تعني تلك الكلمة الفرنسية؟ ولماذا اختارها هنري أليغ عنواناً لكتاب افتتحه بجملة تقول (عندما أتعرض للفاسدين من أبناء بلدي أكون قد دافعت عن وطني فرنسا) وضمّنه خاصة تجربته القاسية في أحد المعتقلات الكثيرة التي نشرها الجيش الفرنسي في مدن الجزائر ودساكرها؟

(La Question) ليست سوى تورية لكلمة التعذيب.

فمنذ القرون الوسطى وهذه الكلمة تعني الخضوع لأبشع أنواع التعذيب الجسدي، ليس فقط بهدف الحصول على معلومات، بل كذلك – وهذا هو الأهم – من أجل ضرب معنويات الإنسان وتحويله إلى آلة خاضعة لمشيئة (الأقوياء)، أو هكذا يظنّون… وإلاّ فالموت.

يقول هنري أليغ وهو يصف حياته في المعتقل: (في هذا السجن الكبير والمكتظ، لكل زنزانة حكايتها مع العذاب(…). هنا يقبع ثمانون سجيناً موثوقو الأطراف، ينتظرون إما الفرج أو النهاية… أساليب التعذيب أصبحت، منذ زمن، كلها معروفة لديهم، فقلة منهم لم تخضع لها كلها. لذا، كانت أسئلتنا الأولى إلى الوافدين الجدد، إن تمكنّا من توجيه بعض الكلمات لهم، تنطلق حسب الترتيب التالي: منذ متى وأنت معتقل؟ هل عذّبت؟ على يد من، المظليين أم الشرطة؟). ويضيف: (مر على اعتقالي ثلاثة أشهر تعرّفت خلالها إلى الكثير من الآلام والإذلال إلى درجة مازلت أعتقد معها أنني لن أقوى يوماً على الحديث عن تلك الأيام والليالي. شهور بكاملها كنت أسمع صراخ المعذّبين، هذا الصراخ الذي لن يزول إلى الأبد من ذاكرتي).

رحل هنري أليغ، منذ أيام، تاركاً وراءه إرثاً نضالياً كبيراً.

انطلق من الجزائر إلى العالم الواسع كله في مواجهته مع الاستعمار القديم والجديد، من أجل كرامة الإنسان وحقه في الحياة الكريمة.

ولأن الإمبريالية لا تزال تعتدي على الشعوب، ولأن الديكتاتوريات المستندة إليها لا تزال تعيث في الأرض العربية فساداً، فلا بد من الاستناد إلى هذا الإرث وتثميره إلى حين بلوغ الزمن الذي تنتهي العصبيات عند حدوده، ومعها يزول الطغاة إلى غير رجعة.

 

عن (النداء)

العدد 1105 - 01/5/2024