سورية الحبيبة (1 )

منذ وعيت الدنيا لا أذكر أن سنة من حياتي مضت من دون أن أزور سورية. كنت أعيش مع أهلي في بيروت إلا أن دنياي شملت دائماً سورية والأردن (عندما كانت الضفة الغربية جزءاً منه)، والآن أجد أنني لم أزر الشام منذ ثلاث سنوات، وأخشى إذا زرتها إلا أعرف البلاد التي أحببتها صغيراً وكبيراً.

هل هناك من زار دمشق ولم يقع في غرامها؟ كانت جزءاً من كل جلسة لي مع نزار قباني، وأعرف أن محمد الماغوط جاء إليها من قريته وفتن بها، فلم يتركها إلى أن مات فيها. كم من عاشق آخر لم نسمع به.

سنوات المراهقة كانت العصر الذهبي لعلاقتي بدمشق، فبعد أن كنت أزورها برفقة والدتي، أو نمر بها في الطريق إلى الأردن، أصبحت وأصدقائي نزورها وحدنا. وكم اجتمعنا في بحمدون المحطة ذات يوم صيف، لتحملنا سيارة صغيرة (فيات 600) إلى عاصمة الأمويين، فنبدأ بأكل (فتة مقادم) الدهن يسبح فوقها، قبل أن نسمع بالكوليسترول، ونكمل بالبوظة (جيلاتي أو آيس كريم) عند بكداش في بداية سوق الحميدية، وإذا بقيت معنا ليرات فقد ننتهي في أحد مقاهي الغوطة قبل أن نعود إلى بحمدون.

وكان يوم أصبح لدمشق معرض دولي، وزرناه يوماً بعد يوم. في الافتتاح هزمت الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي هزيمة منكرة، فالجناح السوفييتي عرض صناعة ثقيلة وحديداً وصلباً وما إلى ذلك. أما الأمريكيون فقدموا لنا أول فيلم نراه بالأبعاد الثلاثة، وكانت النتيجة أن الجناح الأمريكي بقي مزدحماً طوال أيام المعرض، فيما السوفيات يستجدون المتفرجين.

دمشق مضيافة، عندما لم نجد فندقاً يقبلنا أثناء المعرض ذهبنا إلى الجامع الأموي، وسمح لنا الحارس بالنوم على السجاد حتى حانت صلاة الفجر.

كان الحارس على الباب يسأل الزائر (بالله قديش الساعة)؟ فإذا أجابه الزائر بالعربية قال له: تفضل، من دون أن يسأل عن دينه. أما الأجانب فكانوا يرسلون للدخول من باب مجاور، وتعطى النساء غطاء للرأس.

اليوم لا أسمع خبراً من سورية، إلا ويتحدث عن قتل وتدمير، لا أريد أن أزور حمص لأبكي عليها، أو حماة، فأنا لا أذكرهما إلا وأذكر النواعير على العاصي. هل قصفت النواعير أيضاً؟ أفضل ألا أسمع الجواب.

حلب زرتها بسيارة الأهل، وبرحلة في باص المدرسة، كما زرتها مستعملاً القطار (أوتوماتريس) الذي كان يبدأ الرحلة من منطقة مرفأ بيروت. وأكملت الرحلة إلى تركيا ثم أوربا ذات صيف مع زميل الدراسة غازي، بعد أن نجحنا في (البكالوريا) وقُبلنا في الجامعة. وعدت إلى حلب آخر مرة قبل سنوات بدعوة من الرئيس بشار الأسد لحضور ألفية مار مارون، وكانت المدينة كما عرفتها دائماً. الآن حلب ساحة قتال بين قوات النظام والثوار، من وطنيين وإرهابيين، وأرفض أن أراها شبه مدمرة لتبقى صورتها في العقل والقلب كما أحب.

أفزع إلى آمالي. الشوام لا أحد يغلبهم. صديقتي الشابة الحسناء بنت حلب كتبتُ في هذه الزاوية عنها بعد أن قبلت لدراسة الفيزياء النووية في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم حصلَتْ على زمالة في أبو ظبي، وتركتها إلى جامعة بيزا في إيطاليا بزمالة من الاتحاد الأوربي. آخر أخبارها أنها قبلت عرضاً من الولايات المتحدة لإكمال دراسة الفيزياء النووية في كاليفورنيا، وهنأتُها ورجوت ألا يخطفها الأمريكان منا.

الصغيرة ديما ترد لي ثقتي بأن الشمس ستشرق من جديد على سورية، وأن أهلنا فيها سيخرجون من الكارثة أقوى مما كانوا.

أو لعلي أحلم. ماذا بقي من سوق الحميدية؟ الغوطة الآن معقل للثوار. هل المطاعم والمقاهي فيها ثكنات أو دمار وآثار؟ وهل سلم جبل قاسيون؟

ما قدرت يوماً أن أقول إنني أعطي نصف ما بقي من العمر لأشرب كأساً من عصير الرمان عند مدخل سوق الحميدية. كنا نردد قول شوقي:

جرى وصفَّقَ يلقانا بها بردى

كما تلقّاكَ دونَ الخلدِ رضوانُ

والحورُ في دُمَّرٍ أو حولَ هامِتها

حورٌ كواشفُ عن ساقٍ ووِلدانُ

كانت دمشق جنة الله على أرض أقدم مدينة مسكونة من دون انقطاع في العالم كله. واخترنا أن نخرج من الجنة.

وأكمل غداً.

 

(الحياة)، الأربعاء 14 أغسطس/ آب 2013

العدد 1105 - 01/5/2024