ليست مجرّد تفاصيل

قادت الظروف الراهنة كثيراً من العائلات إلى الخروج من بيوتهم، ليسكن بعضهم بيوتاً أخرى يملكونها أو يستأجرونها في أماكن أكثر أماناً، وبعضهم اضطّر للعيش مع عائلات أخرى في بيت مشترك، ومنهم من أمّن لنفسه فرصة في بلد آخر، وهكذا لكلٍّ طريقته بحثاً عن مكان يأويهم، ليعاني كل منهم معاناة جديدة مختلفة.

والأكثر معاناة هم الذين يقطنون في مراكز اللجوء، وهي معاناة لا تتعلق بتأمين أساسيات العيش، فالطعام ومساحة الأمان والمكان كله متوفرة، إضافة إلى بعض من يساندهم اجتماعياً ونفسياً، لكن المعاناة الحقيقية تكمن في تفاصيل الحياة اليومية التي انتهكت لأسباب عديدة، وكثير منهم لا ذنب له في كل ما يحدث، إلا أنه كان يقطن في أماكن حارّة، فاضطروا أن يتركوا بيوتهم عندما تحوّلت إلى ركام..

في تفاصيل الحياة اليومية هنالك عجوز اضطر إلى النزول ثلاثة طوابق كلما أراد أن يقضي حاجته نهاراً أم ليلاً، هنالك أم تحلم أن تصنع بنفسها قالب الكعكة لأولادها وتخبزه بنفسها، كما كانت تفعل في الأيام العادية عندما يحومون حولها ليشاركوها في خفق القالب. في تفاصيل الحياة اليومية تكمن معاناة زوج وزوجة يريدان أن يجلسا معاً ويتحدثا عما جرى معهما خارج المنزل. أسرة تريد أن تشعر بالخصوصية في طريقة ترتيب بيتهم وفي مشاكلهم في تربية الأولاد في معاشرة أشخاص يرتاحون معهم بإرادتهم يغلقون الباب على أنفسهم، متى شاؤوا ويفتحونها متى شاؤوا، أن يسقوا شتلة الحبق ويلوّنوا شراشف أسّرّتهم، ينامون ويستيقظون بنظام حياتهم التي يرغبون فيها كما يحلو لهم.

أطفال لهم خزانتهم الخاصّة وملابسهم وألعابهم، لهم شاشة التلفاز يتحكمون برؤية البرنامج الذي يريدون، دون أن يضطروا للمشاركة مع عائلات متعددة مختلفة متنوعة. صبايا لهن غرفتهن وأوراقهن وشخصياتهن التي تتكوّن اليوم في ظروف معقّدة فيها الكثير من التساؤلات وخلط الأوراق وانتهاك الخصوصيّة.

في كسر كل هذه الخصوصيات في التفاصيل الصغيرة، هدمٌ للأنا المنفردة التي يعيشها كل إنسان بذاته المستقلة وأسراره وآلامه، فيتحوّل الإنسان إلى جزء من مجموعة لتضيع شخصيته وسط ظروف تجبره على ذلك، وهذا عبء لا يستطيع أن يعبّر عنه إلا الشخص بذاته، فهو يخصّه وحده. وهذا ما يجب أن يهتم به كل من يعمل ويشرف على هذه المراكز، وأن يتفهم الوضع الإنساني البائس الذي وصلت إليه عائلات كثيرة، إضافة إلى كل ما فقدته من خصوصياتها وتفاصيلها الصغيرة التي تميّز بين فرد وآخر وبين عائلة وأخرى. ولا بدّ من تفهّم هذا الألم بعيداً عن الحديث حول تأمين الحاجيات الأساسية، فهو إنسان قبل كل شيء وما يميزه أناه.

العدد 1105 - 01/5/2024