في الخروج عن الواقع… لحظة شهيق

تمرُّ بي الأيام وأنا مترقبة للتغيير، لا التغيير البيئي ولا السياسي ولا الإنساني، بل لرؤيتي وإحساسي بالواقع؛ فإنني دوماً أشعر بذلك الهدوء، بتلك اللاواقعية… بل والتهرب من الزمن، ولا أعلم ما إذا كانت تلك رحمةً أم نقمة.

في مراحلَ قديمة تُوفِّيَ لي أناس أعزاء، فما صادقت الموت، وانصدمت بأصدقاءٍ قريبين لروحي، وما لامست الخيانة، ومرت بي سنوات العمر راكضةً وما تركت طفولتي تذهب بعيداً عن قلبي وروحي وحتى عقلي، ولا هي تركتني، وبقيت أحيا الماضي السعيد نفسه..

وها هي ذي أصعبُ الأيام تمرُّ بنا من حربٍ وموتٍ وقهرٍ وذلٍّ وشماتةٍ، وما أنا الآن إلا مكذِّبة للحدث الأليم، وشاعرةً بأن ما نسمعهُ ونراهُ ونقرؤهُ ما هو إلا كابوسٌ حزينٌ لنا نحن السوريين، وحلمٌ سعيدٌ لمن أراد لنا أن نصل إلى هنا؛ وأما الواقع والحقيقة فما هي إلا سورية بلد الأمان والاطمئنان والسلام وراحة البال.

مرّت تانك السنتان والنصف، وأنا أسمع أن السفر في هذه الأوضاع داخل البلد هو ضرب من الجنونٍ، لكنني أشعر أن تلك الكلمات لا تعنيني، والمقصود بها طرقات غير طرقات سوريتنا المعهودة. سمعتهم يقولون بأن وقت التاسعة مساء ما هو إلا وقت منتصف الليل والشوارع المنسية، ما تنبهتُ لذلك إلا حين مررت وأهلي مضطرين بسبب ظرف ما في تلك الساعة، فرأيت شوارع دمشق المهجورة، وكأن الموت قد خيّم كما ظلام الليل، رأيت سيارتين أو ثلاث تسير، وعددٌ قليلٌ من الأشخاص، فعرفت أنها الساعة التاسعة في دمشق التي كانت لا تنام. عدت بذاكرتي لتلك الأيام، لأيامٍ كنا نقف فيها لدقائق كثيرة إلى جانب تلك الإشارة منتظرين اخضرارها لنكمل سيرنا بعيداً عن اختناق السير. رأيت الناس يقطعون الشارع بمغامرةٍ شاتمين السيارات الكثيرة المسرعة. شممت رائحة المطاعم وشاهدت الزبن الكثر المنتظرين دورهم لأخذ مشتهاهم من الطعام. سمعت صوت ضحكات الأطفال يلعبون في الحديقة المجاورة، لمعت في عيني إضاءات السيارات وأضواء الطرقات والمحلات وأصوات من كل حدبٍ وصوب وأغان تملأ الأمكنة والأزمنة، رغم حمل كل فردٍ للكثير الكثير من الهموم والأحزان والفقر والتعب، وعدتُ لنكزة الواقع، لصمت الأمكنة، لخفوت الأضواء، لعتمة القلوب، للشوارع المغلقة بالحواجز.. عدت من خروجي عن الواقع لذلك الواقع الجريح، بل وعلمت أن هذه الطرقات هي هكذا منذ الساعة السابعة تقريباً.

وهأنذا أدخل إلى حارتي وأجد بعضاً من الخارجين مثلي عن الواقع، فأراهم يتمشون ويتبضعون ويتسامرون في الشارع، وكأنّ الأصوات المسموعة هناك ليست قريبةً منهم. بل أخبار تُقال هناك وتُسمع من ذاك التلفاز، لا سورية هي المقصودة ولا شعبنا هو الحزين.. أحسست أنهم تعبوا من الحزن والموت، ملّوا الخوف والألم. نعم، إنهم يريدون أن يعيشوا رغم الظروف، أن يسمعوا أصواتهم بدل المدافع والهاون، أن ينظروا عيون بعضهم عوضاً عن مناظر الدم والقتل.

وأسأل حينئذ متحيّرة: هل في (الخروج عن الواقع) ظلمٌ وإنكارٌ لتلك الظروف اللعينة، أم أنها تسليمٌ بأمر الله فتكونُ راحةً وسلاماً؟ وهل إحساسي الخيالي بأنني مازلت قابعة هناك، في عمرِ طفولتي البعيدة، في ظلِّ ذلك المكان الآمن في بيتي وشارعي الحبيب ودمشقي المبتهجة بألوانها المشعّة، هو ظلمٌ لواقعي الناضج لحدّ الهرم، أم هروب واقعي لزاوية الأمان تلك ؟

لا أريدُ أن أصدّق، كما لا أرغب في الكذب على جولةٍ من جولات عمري.

العدد 1105 - 01/5/2024