الأزمات الصغرى صيّرت أزمة اليوم (1)

هو الوطن صَنَعَ أبناءه لا غير، متين بمتانة فكرهم، وهشّ بهشاشته أو بهشاشة ضميرهم. مبني على أسس تجمع شمل مواطنيه ومبادئ ترسم لهم غدهم. وها هي ذي الأزمة السورية، أزمة الكبير والصغير ارتسمت غداً لماض مأزوم لا محالة. وإذا كانت الأزمة السياسية والواجهات الأيديولوجية أقوى من الشعب في الحالة السورية، إلا أن دور الشعب في هذه الأزمة لم يكن بقليل. فإذا سألت مواطناً سورياً عمّا يسمى بالواسطة وعدم تطبيق القانون، فلن ينكر تفشي تلك الممارسات بكل مكان وبكل دائرة وبكل مؤسسة من المؤسسات السورية.

وبالنسبة (للواسطة)، أي تدبير الأمور بمساعدة مسؤول ما، لم تكن يوماً ممارسة طبيعية أو حالة استثنائية شاذة في الوسط السوري، بل تتأصل بكل تفصيل من تفاصيل العمل المؤسساتي. واقتلاع جذور هذه الممارسات غاية في الصعوبة، بسبب نشوء أفراد المجتمع السوري عليها، فنحن نشهد في دوائر الدولة كافة، وفي الجامعات والسكن الجامعي، وحتى في المدارس والروضات أحياناً، مشاهد تفضيل فرد من المجتمع على آخر. طبقية تطبق بوضوح بين المسؤول وذويه وبقية الشعب، وهكذا تستمر الدوامة في جميع المجالات والمستويات: من المستويات الكبرى الأكثر خطورة إلى المستويات الخطيرة الصغرى، أي من مؤسسات الدولة، إلى الحي الصغير. كلها تُنمِّي لدينا التعامل بهذا الأسلوب غير القانوني وغير العادل واللاإنساني.

إن ما ذكر ليس بجديد، ولكن الجديد هو توضيح تعامل الإنسان السوري مع هذه الظاهرة. فقسم لا بأس به يقوم بتدبير شؤونه عن طريق الواسطة، ويعترف بهذه الممارسة وكأنها شيء طبيعي، بل يتفاخر بها أحياناً بقول المصطلح البلدي (أنت وشطارتك) المنتشر جداً في الوسط السوري، لأن تدبير الشؤون في سورية، وخاصة في الدوائر الحكومية بات يحتاج إلى شطارة كبيرة. وهذه الشريحة شريحة خطيرة جداً إذ تحمل هذه الأفكار غير الإنسانية وتضمر في طياتها تمييزاً بين البشر، إضافة إلى إيمانها بقانون الغابة والتنافس حول قضاء الحاجات. وشريحة أخرى تختبئ وراء مقولة (نضطر عند الحاجة والضرورة)، وهؤلاء يختلفون نظرياً عن سواهم السابقين، لكنهم يحملون المضمون ذاته. إذ إن الحاجة الإنسانية لكل شيء، من ربطة الخبز إلى الشهادة الجامعية إلى العمل. الشريحة الأكبر، هي الشريحة المدعية رفض الواسطة والمعيبة لها، والرافضة لمن يقوم بممارستها، حتى إنها قد تصفها أوصافاً قذرة، وعندما تتطلب الأمور تكون هذه الشريحة أول من يرضخ لها رغم رفضها، دون تأنيب ضمير، ودون الاعتراف بأنها شنيعة، وتضع التبريرات لذلك.

فمن منا نحن السوريين يرفض توقيع أوراقه بدائرة حكومية بيوم واحد إذا تأكد أنها ستؤجل أسبوعاً من الوقت كي توقع في الحالة العادية أي الروتينية؟ من منا نحن السوريين لا يرغب في أن يترعرع أبناؤه عند أفضل المدرسين في أفضل المدارس، عندما نتأكد أن أطفالنا قد يواجهون مدرسين قساة أو مدرسين يقومون بالتمييز حسب كثير من الأوليات التي تهمهم؟ من منا لا يرغب في أن يحصل على سكن جامعي مع بداية العام الدراسي دون عناء، علماً أن انتظار غالبيتنا لسكن نظامي جيد مع شركاء جيدين يحتاج إلى عناء كثير وإهمال دراسي؟ من منا لا يرغب في إكمال دراسات عليا؟ من منا لا يرغب في أن يحصل على وظيفة تناسب شهاداته وخبراته؟ من منا يرفض أن تسير أموره كلها بنظام يضمن الإنسانية للإنسان؟

بالطبع لا أحد يرفض، والجميع يرغب في ذلك، مع العلم أن هذه اليوتوبيا ليست موجودة في أي بقعة على الأرض، وصعب حدوثها في البقعة السورية بالذات، والآن حصراً. إضافة إلى أن كل ما ذكر سابقاً يحتاج إلى خرق كثير من الأوليات لتنفيذه، لأن القانون والأنظمة في سورية تضطر المواطن لأن يقف بوجه المواطن مجبراً إلى حد ما.

ثم من منا يرفض أن تسير أموره في دائرة حكومية حتى لو أُجل البشر كلهم؟ ومن منا يرفض أن يميز ابنه في المدرسة وينال أفضل تدريس وأحسن اهتمام؟ ومن منا يرفض سكناً جامعياً بعدد شركاء أقل وبمواصفات أفضل؟ ومن منا يرفض منحة دراسية لا يستحقها ويدرك تماماً أن هناك من هو كفء وأفضل منه؟ ومن يرفض وظيفة في مؤسسات الدولة رغم عدم امتلاكه شهادة أو خبرة تكافئ ذلك؟!

لا نجزم أن الجميع قد يرغبون ويرفضون ذلك، لكن نسبة من يرفض هذي الممارسات اللاإنسانية ضئيلة جداً، لا يمكن أن تحسب في مجتمعنا السوري.

صراع خطير بين الإنسانية واللاإنسانية يدور في سورية، منشؤه الحاجة إلى القانون، وإلى عدم خرقه، مضمونه قضاء الإنسان لحاجاته الأساسية التي يحتاج إلى عناء كبير وخرق كبير للقوانين لقضائها. ويبقى الصراع دائراً بين قضاء حاجات العيش والسعي لحياة أفضل، مع حدوث قليل من اللاقانون، أو الهجوم حول الحصول الذاتي على كل شيء دون الإحساس بالسوري الآخر.

فمتى يبدأ السوري العمل بنفسه للقضاء على تجريده من الإنسانية والطبقية؟ متى يرفض بقرارة نفسه أن يأكل الخبز وجاره جائع؟ وأن تسير أموره بينما أمور الآخر تعرقل لأنه لا واسطة لديه؟ ومتى يعترض على أن يكون أطفاله بخير ويستمدون العلم بحالة نفسية وباهتمام كبير دون سواهم من الأطفال؟ متى يعتبر أن سكن الطالب الجامعي الجيد مع شركاء مناسبين هو مطلب كل طالب سوري، وحقه دون أي تمييز؟ وأن الدراسات العليا هي حق لكل مثابر وطامح، وليست حقاً لكل ذي نفوذ؟ وأن العمل لا ينبغي إلا أن يوزع تبعاً للاختصاصات والخبرات؟

لسنا غريبين عن الروتين المتأصل في كل تفاصيل الحياة السورية؟ وليست جديدة الممارسات البيروقراطية والخروق التي تحدث بعيداً عن القانون. وفي أزمتنا السورية، لحظنا أنه لا يمكننا عمل شيء أمام قرارات الأيديولوجيات السياسية، ولا يمكننا ضمن هذه الأزمة أن نطالب بحقوقنا وبعدم تمييز مواطن عن مواطن كائناً من كان، وتحت أي ظرف، أو أي ضغوط، إلا عن طريق مراقبتنا الذاتية لإنسانيتنا، وبألا نسمح لأنفسنا أن يميّزنا أحد عن سوانا، لأنه سيأتي يوم ويميَّز سوانا عنا.

العدد 1105 - 01/5/2024