حيرة العائد.. هل نالت منا رياح الحرب؟

في ما مضى وعندما كان يعانق دمشق قبل فراقها كانت تودِّع هامته بقبلة إباء…ففي أحضانها وجد للحب مرتعاً، ومن لبَانها أرضعته غزارة في العلم، وانفتاحاً في الفكر وتفرُّعاً في الميادين، وبقيت إلى جانبه شهوراً تعلمه الخَطْوَ وتحميه من العثار ليستطيع السير إلى أحلامه بخطوات فِسَاح.

  لكن ما به وقد أتقن المشي، وارتقى في الدرجات الأولى من سلَّم الأحلام، تضربه على رأسه وتلقي به في الظلمات أياماً عشراً..؟!

أيعقل أنَّ ما بينهما من عشق قد جف ونبتت مكانه بذور للكراهية..؟

أم يعقل أنها غارت من سرعة تقدُّمه، وتَحَوُّلِ خطواته الفِساح جرياً تجاه النجاح..؟

تبقى الإجابة عن هذه الأسئلة مدفونة تحت ركام من الحيرة بالنسبة إليه، لكنه كان متأكداً أن أمه الدمشقية لا تحمل له في طيَّات قلبها إلا خيراً وحباً. ولئن قست عليه الآن وصفعته وهو في منتصف الطريق، لربما يكون في مسلكها حماية له من متابعة مسيرة متهورة في طريق تكون الهاوية نهاية لها.

يخرج منها هذه المرة كسير الكبرياء، وقد علا جبينه آثار لكمتها الأخيرة بدل القبلة المعهودة،  يطوي المسافات تجاه قريته الغائب عنها أياماً طوالاً، علَّها تداوي كبرياءه الجريح.. وما إن يصل إليها حتى تقول له بلسان الحال: (جروحي عميقة، وحاجتي إلى المداواة أشد من حاجتك إليها).

لقد نالت منها رياح الحرب فغيرت المعالم والوجوه.. ذهب لتفقد بيوت الأقارب، فإذا بها قد هجرها أهلها، وأضحت خاوية على عروشها.. ثم تصفح الوجوه فَعَزَّ عليه معرفة كثير منها.

إنهم غرباء عن قريته..!

حتى من بقي من أهلها أضحت معرفته عسيرة أمام مشاكلته الغريب.

عندئذ أدرك أن هذه الوجوه هي من حذرته دمشق من الاختلاط بها، إن كان يبغي عودة إليها.

فرجع إلى بيته خاسئاً وهو حسير، وقرر الانزواء فيه وملازمة كتابه معتزلاً حياة أهل القرية وضيوفها، ريثما يجد طريق العودة إلى دمشق.

  بقي شهرين يصارع الملل أحياناً ويعايشه أحياناً أخرى، وكلما أفصح لسانه عن رغبة في العودة تعالت صيحات التحذير والترهيب من لكمة جديدة قد يتعرض لها، وقد تكون القاضية هذه المرة.

واستمر تردده إلى أن تدخلت (شامُهُ) وحسمته عندما أرغمته على اتخاذ قرار بالرجوع إليها، فنجاحه في سنته الدراسية في قبضتها، إن عاد منحته إياه، وإن أبى ألقت به في صفوف الراسبين، وهو الوصف الذي لم يعهده طوال حياته العلمية، فكان لا بدَّ من رمي نفسه في أحضانها مجدداً مهما كلفه الأمر من مخاطر..يحزم الأمتعة وتأتي لحظات الرحيل.

لسان حاله يقول:

 أتنكرُني دمشقُ وكانَ عهدي    

بها ألاَّ تلوِّحَ بالسرابِ

بينما ترمقه عينا أمه الباكية بنظرة الوداع الأخير قائلة: (فلتذهب الدراسة إلى الجحيم، ولتبق أنت سالماً).

    التفت إليها ونطق بلغة الثقة المطلقة، والإيمان بالذات، قائلاً: (أمي.. أنا لا أموت بسهولة، ابنك صاحب رسالة ولن يموت قبل أن يؤديها..!)

ثم انطلق لا يلوي على شيء، يذْرعُ المسافات ويعدُّ الساعات. وعندما انقضت سابع ساعة عانق الشام من جديد، واتصل بأمه قائلاً:

(من قاسيون، أسعد الله مساءك بكل خير).       

العدد 1107 - 22/5/2024