الوعي.. وأثره في البناء الزوجي والأسري

تستطيع أن تقف على عظم الجرم الاجتماعي المرتكب برؤيتك طفلاً لم يتجاوز الأشهر الستة قد طُلقت أمه وعمرها لم يبلغ العشرين بعد، وأبوه ابن اثنين وعشرين، وقد ألقت به الأقدار في حضن جدته لأبيه، لترعاه.

إن لكل جريمة علة تقف وراء حدوثها، وفي كثير من الأحيان تتظاهر علل شتى لخلق جريمة واحدة، ولو ذهبنا نبحث في هذه الجريمة، لأضاء لنا نور على عنوان مظلم سطَّرت حروفه كلمتان هما: (انعدام الوعي) قد يُعتَقد أن الوعي هو الإدراك الفطري لأهمية الزواج، في إشباع الغرائز وتحصين المجتمع ضد الرذائل التي تولّد انهيارات أخلاقية وتفشي بين أعضائه أوبئة توهن بنيته وتنذر بسقوطه ، كما قد يُعتقد في أحيان أخرى أن الوعي ترقية يبلغها الإنسان بِعَدِّ السنين، حتى إذا بلغ الثامنة عشرة نال رتبتها.

ثم سادت مؤخراً نظرة توحّد بين (الجامعي) و(الواعي)، وفلسفة هذه النظرة قائمة على أن كل من درس في جامعة ونال إجازة فهو (واع)، وإلا فبينه وبين الوعي بَوْن شاسع.

والحقيقة أن الوعي في جوهره لا يعدو أن يكون إدراكاً، وهذا الإدراك يفتح نافذة التغيي،ر لاكتساب معرفة ونيل مهارات وخبرات تُمكِّن من الدخول في نطاق حيوي جديد ، والإدراك إن لم يصحبه تغيير يتعرض الوعي إلى تبديد أو تعطيل.

وتشكيل الوعي قد يرتبط بالمرحلة العمرية، لكنه لا يتوقف عليها، بل يعتمد في تكوينه على التثقيف وسعة الاطلاع والاتصال بالأفراد النابهين والطبقات الواعية وهذا كله يخلق وعياً مجاوزاً للعمر الزمني.

والوعي عندما يعمل في الحقل الأسري فإنه يكتسب من فوره صبغة البناء أو التدمير، فهو إما أن ينشئ الأسرة على ركائز قوية ودعائم متينة وإما أن يقيم هذا البنيان على أساس هش، ويمهد بذلك لانهيار وشيك.

والأسرة التي تُبنى اليوم تؤسَّسُ إما على نظرة مادية بحتة، قوامها تأمين الحاجات الطبيعية والاقتصادية دون الالتفات إلى ما وراء ذلك، أي أن يجتمع زوجان للأكل والشرب والنوم والتكاثر، وهذه حياة مطابقة لحياة الأنعام، بعيدة كل البعد عن طبيعة البشر، لإلغائها حاجات سيكولوجية هامة إذا تخلى عنها الإنسان تخلى عن إنسانيته، وإما أن تؤسس على نظرة عاطفية محضة، ترى أن الحب الذي يربط بين الزوجين كفيل وحده بإنشاء أسرة تجتث العقبات وتجتاز التحديات ، وتمضي حياتها في وفاق ووئام وسلام دائمين.

وفي محاولة لبناء نظرة موضوعية تُرسِّخ الديمومة والاستمرار لبيت الزوجية والخلية الأسرية نقول:

لا بد من إيجاد جسر يصل بين الحاجات الطبيعية والفكرية ، والعاطفية والاقتصادية، يلتقي عليه الطرفان لتشييد بنائهما الأسري والتربوي والاجتماعي.

وكما لا تفلح الدراسة وحدها في تأهيل الطالب لدخول سوق العمل، كذلك لا تفلح الاستعدادات الفطرية وحدها في إدخال الانسان إلى الحياة الأسرية وتشييد دعائمها، بل لا بد أن ينضم إليها مؤهلات ومقومات أخرى. وهذه لا بد أن تتصدى لها مراكز مختصة، تتولى تقديم الاستشارات وحل المشكلات وإقامة الورشات لتأهيل المتدربين وإرشادهم النفسي لدخول الحياة الجديدة.

لئن أقامت بلادنا مركزاً لإعداد الطالب لدخول سوق العمل، فإنها أقامت مؤخراً مركزاً لتدريب وتأهيل المقبلين على الزواج.

وهذه الجهود وإن كانت غير كافية، لكنها قد تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح، تُنَمِّيها الأيام وتضاعف أعدادها وأنشطتها.

ختاماً، لا بد لي، انطلاقاً من نظرة شخصية، أن أؤكد أن الوعي، إذا وجد بين طرفين، كان أرضية مشتركة كافية لتنحية العمر وإرساء دعائم البناء.

العدد 1105 - 01/5/2024