أبو تمام شاعر الجدل والتنوع الثقافي

ضوءٌ منَ النارِ والظلماءُ عاكفةٌ

وظلمةٌ من دخانٍ في ضحىً شحبِ

فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أفلَتْ

والشمسُ واجبةٌ من ذا ولم تجبِ

 في تاريخ كل شعب من الشعوب شخصيات تشكل محطات تتكثف وتتقطر فيها سمات وخصائص مراحل تاريخية محددة. من هذه الشخصيات في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، شخصية مثلت حالة متميزة في تقبلها للجديد وإنتاجه، وإقبالها على الثقافات السابقة عليها والمحايثة لها. هذه الشخصية اتسعت للمتعدد والمختلف والمتنوع (الثقافة اليونانية والفارسية والهندية والشرقية والعربية الإسلامية). إذ تمثلتها وأعادت صياغتها بلغة عربية نقية تمردت على المألوف، وتجاوزت الصياغات الجاهزة، وأجهدت نفسها في الغوص على طريف الأفكار، ملونة إياها بالمستحدث من الصور والزخارف البديعية، مما جعلها بكل امتياز رأساً لمدرسة التطور والتجديد في الشعر العربي في العصر العباسي الأول. إنها شخصية أبي تمام، حبيب بن أوس الطائي، العربي النسب، مبدع ملحمة (فتح عمورية) التي كان بطلها الخليفة المعتصم الذي لبّى صوتاً (عربياً زبطرياً وصل إلى سمعه: وامعتصماه…).

أبو تمام شاعر يفكر بالصور، ويصوغ الفلسفة شعراً، معتمداً على منجز المتكلمين، وعلوم المناطقة. شاعر فيلسوف وفيلسوف شاعر، مجدد في الفكرة والموضوع، في الصورة وطرائق تناولها، شاعر الجدل، ووحدة المتناقضات، المتأصل في الثقافة العربية ممثلة بأبهى أشكالها: (القصيدة)، مع إحاطة بمجمل المنجز الإنساني السابق عليه، والمعاصر له (التخصيب الإبداعي).

أبو تمام، الذي حلت على يديه مسألة الأصالة والمعاصرة، موحداً بينهما، ملغياً التعارض الوهمي فيهما، فهو أصيل في طبعه، معاصر في تكوينه، صاحب مذهب مستقل، بخصائصه العقلية، وبصوره المركبة، وبتحريره للعلاقة المباشرة بين المشبه والمشبه به في التشبيه والاستعارة.

أبو تمام من أشهر المتمردين على منهج القصيدة العربية، والوفي لأهم خصائصها، ومزاياها التي ترسخت عبر تاريخ التجربة الشعرية العربية. فيا أبا تمام.. لماذا تقول ما لا يفهم؟ فيجيب: ولماذا لا تفهمون ما يقال؟! بديهة حاضرة وجواب مفحم، ووعي جمالي للمسافة بين المبدع والمتلقي، تلك المسافة التي لا يمكن ردمها، والمطلوب التقليل من الهوة الفاصلة بينهما، برفع المتلقي إلى مستوى المبدع، وليس العكس. فالجديد يستدعي ذائقة تتطلب جهداً وتربية، والقراءة ليست للتسلية، والإبداع بطبعه مزيد من الجهد.

ألكل هذا تم اغتيالك في جاسم العربية؟ ألا يعرفون أنك دخلت الوجدان الإنساني، وأصبحت متأصلاً في التكوين الثقافي لكل محبي الشعر، وعشاق المعرفة؟ وأن من المستحيل اقتلاع جذورك إلا بإزالة التربة التي أنبتت شجرتك الباسقة؟!

العدد 1105 - 01/5/2024