النداء the call … خيارات الأرواح المقاتلة

نزال الأرواح المقاتلة لا يحصر بتقلد شكلي معين أو قالب معرفي مختار. فهي تصول وتجول في كل زمان ومكان، ديدنها الصبر العظيم وأمل الانعتاق عبر حرق القمصان دعماً للمترددين الوجلين. فهي المحارب الباسل في الميدان، الطبيب المخلص وسط جرحى الحياة المعذبين، الصديق المجهول لحظة اليأس والقنوط، رجل العقيدة الشجاع في محراب المنافقين.. ما يجمعها صدق العزيمة ووميض الأنوار الإلهية الحانية التي تشتعل في جوانحها آن تستدعى.

ضمن دائرة الأفكار السابقة يمكننا تصنيف الفيلم الأمريكي النداء (the call) للمخرج براد أندرسون (Brad Anderson)، الذي يتطرق إلى ميدان قتال يجهله أغلبية الناس، باعتباره الساحة الخلفية التي تدار منها عمليات استقبال نداءات الاستغاثة 911 وتحويلها إلى الشرطة. مما يجعل منه مرآة بسيطة تعكس ألق الروح المقاتلة أثناء عراكها مع أصفاد الجسد البشري، لدفعه نحو اجتراح معجزة الاحتراق أو ما يسمى استخراج الألق الإنساني.

تتوزع مشاهد الفيلم بين قاعة الطوارئ المزدحمة، وأماكن تعقب المجرمين في الشوارع العامة. وتبدأ مع البطلة جوردن Halle Berry الشابة المرحة المقبلة على عملها، والتي تخترق طمأنينة عالمها مكالمة من مراهقة شقراء يحاصرها منحرف في منزل ذويها. ومن هنا يغدو التورط العاطفي في ألم الآخر قدراً ممزقاً للحساسيات الإنسانية العالية.. فجوردن تتابع الصبية على الهاتف وترسل نداءات إلى الشرطة بنفس الوقت.. تبقيها على تواصل، على أمل وصول النجدة. لكن القاتل يكون أسرع إلى ضحيته. إذ يلتقط سماعة الهاتف ويخبر جوردن أن الأمر قد تم، مما يصيبها بانهيار نفسي حاد، تترك على إثره العمل كمستقبلة لإشارات الاستغاثة. لتغدو مدربة للطلاب في نفس المؤسسة التابعة للشرطة الجنائية، ترافقها في تدريسها نبرة يأس عالية، تحذر المقبلين على العمل مما ينتظرهم.

وأثناء جولة ميدانية في قاعة الاستقبالات، تتلقى زميلتها مكالمة من فتاة مختطفة في صندوق سيارة مسرعة. فتجد جوردن نفسها أمام تكرار الحالة الممزقة لإنسانيتها. فتلتقط السماعة وتبدأ في حوار بطولي مع الفتاة كيسي (Abigail Breslin)، تتجاوز فيه هلعها السابق وتأنيب الضمير الذي رافقها ستة أشهر بعد مقتل الفتاة الأولى.. فتشجع كيسي على الصمود، تخفف من رعبها تدريجياً وتدفعها لكسر ضوء السيارة الخلفي من الداخل، ومد يدها والتلويح للمارة، حتى تلتقط الشرطة مكالمة من أم لمحت اليد وأعلمت برقم السيارة.. ولكنه يفلت من المطاردة لتبدأ محاولة إنقاذ جديدة، تتمثل بدفع الطلاء نحو الخارج من فتحة الضوء المكسور.. تتواصل محاولات الإنقاذ بالتزامن مع سعي رجال الشرطة، لتكون النتيجة قتيلان وفتاة مغتصبة، تساق إلى جهة مجهولة..

تسفر المطاردات البوليسية عن معرفة هوية الخاطف والفتاة المختطفة، ويتم التعرف على حياته العائلية. مما يفتح إشارات الاستفهام حول أسباب اختطاف رب أسرة سعيدة لفتيات شقراوات واغتصابهن. بينما يستمر التواصل عبر الجهاز الخلوي مع كيسي، حتى يسلبها القاتل الجهاز. وهنا تشرع جوردن بالتوسل باكية كي يدع الفتاة على قيد الحياة، وتذكره بأن عائلته أصبحت معروفة. فيكرر جملته السابقة: لقد تم الأمر.. مما يضاعف شعورها بالواجب الإنساني العميق، وحتمية إنقاذ كيسي مهما كلف الأمر.

تنجح جوردن الهشة الرقيقة، فيما عجز عنه رجال الشرطة، وتتوصل إلى معرفة مكان كيسي، ومشاركتها مصيرها الغامض، كرهينة في يد منحرف سادي. عشق وهو طفل شقيقته المريضة بالسرطان، وحين ماتت انتقم من الفتيات اللواتي يشبهنها، بجز شعورهن بعد اغتصابهن. وكان دور كيسي قد حان، عندما اندفعت جوردن لإنقاذها. فتلقتا ضربات القاتل معاً، وقيدتاه إلى كرسيه وسط ضحاياه في القبو العاتم، ليشارك ضحاياه آلامهن.

هيَّأ التقاسم البطولي للألم الإنساني بين المرأتين،  لتخطي الظلم ووحشية العنف الذي لا تلجمه القوانين والمبادئ الأخلاقية. كذلك سرّع قصاص القاتل كي يتأبد في ظلامه، بعيداً عن رأفة القوانين وحساباتها المراعية لأمراض النفوس العاتمة.

العدد 1104 - 24/4/2024