العودة إلى ميدان التحرير

السياسة كالفلاحة لها مواسم:

ففي مصر الدولة التي تعتمد أساساً على الزراعة، يجب على كل زعيم سياسي أن لا ينسى أساسيات الفلاحة، وهي أن الحصاد ينتج عن حراثة الأرض وزرع البذار وريّ الأرض والاعتناء بالمحصول من الآفات والحشرات الضارة. هذا إذا أراد الحصول على غلة كبيرة وثمار وفيرة. ولكن ما حدث في مصر يوم الخميس 22 تشرين الثاني 2012 أثبت أن الرئيس المصري المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين أبعد ما يكون عن فهم طبيعة السياسة والرياسة، وحتى الزراعة والحصاد. فبإصداره الإعلان الدستوري الذي حصّن قراراته من الطعن عليها أمام أي جهة، وحصّن قرارات الجمعية التأسيسية للدستور المطعون في قانونيتها، عمل على تأليب الشارع المصري عليه، وأعاد الجمهور المصري ليحتل الساحات العامة في عموم مصر،وخصوصاً ساحة التحرير في قلب العاصمة المصرية القاهرة، هاتفين بسقوط الإعلان الدستوري، ومطالبين برحيل الإخوان وممثلهم في رئاسة الجمهورية عن الحكم في البلاد، ولسان حالهم يقول: (امشوا سيبونا يا إخوان… الشعب المصري مش خرفان). فالمصريون  أكدوا أنهم لم يقوموا بالثورة ويضحوا بدمائهم ليستبدلوا بالدكتاتور دكتاتوراً آخر. ورافق ذلك اشتباكات بين المتظاهرين ومناصري الإخوان والجماعات السلفية، هذه الاشتباكات بلغت ذروتها في مدينة الإسكندرية في محيط مسجد القائد إبراهيم، حيث سقط عشرات الجرحى، وأضرمت حينذاك النار في مقراتٍ لحزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين في المدينة.

 

الانقلاب على الديمقراطية

فما حدث صباح يوم الخميس 22 تشرين الثاني من قرارات أصدرها الرئيس محمد مرسي المنتخب ديمقراطياً، جعل الرأي العام المصري والعالمي يقارن بين ما حدث في مصر وما حدث في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما حملت صناديق الانتخاب أدولف هتلر إلى منصب مستشار الرايخ الألماني، وما حدث بعد ذلك من عملية انقلاب قام بها هتلر وحزبه النازي وعطّل على إثرها الإجراءات الديمقراطية، وعمل على تأسيس نظام استبدادي مرعب قضى على جميع خصومه السياسيين، ثم أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية التي دمرت ألمانيا وقضت على خيرة شبابها. هذه المقارنة جعلت المصريين يرون أن ما حدث هو عبارة عن انقلاب على الثورة في شكل إعلان دستوري (خجل دكتاتوريو مصر السابقون من إصدار شبيه له) هذا الإعلان يمهّد الطريق أمام الرئيس محمد مرسي ومن خلفه الإخوان المسلمون إلى الاستحواذ على السلطة المطلقة في البلاد.

هذا الإعلان قرع جرس الإنذار في المجتمع المصري، وسلّط الضوء على الأهداف الخفية للإخوان المسلمين. فالجماعة التي وصلت إلى السلطة بالطريق الديمقراطية بدأت بتدمير جميع الطرق التي أوصلتها إلى كرسي الحكم في مصر. مما جعل المراقبين يتساءلون، عما إذا كانت ممارسة الإخوان السابقة وتصريحاتهم لا تعدو عن ممارسة التقية السياسية من أجل الوصول إلى السلطة والسيطرة عليها، إلى أن يشاء الله أمراً آخر، أو يحدث ما لا يحمد عقباه على الأرض العربية. وهذا ما يُخاف منه في ظل إعادة ترتيب الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة رسم تحالفات القوى العظمى في المنطقة، وترافق مع الحديث الذي بدأ يتصاعد عن سايكس – بيكو جديد يعيد رسم الحدود السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

 

اللعبة الأمريكية… وسحر الكرسي

بعد أربع وعشرين ساعة من إسهام الرئيس المصري في اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بدأ الحديث يدور في كواليس السياسة الدولية عن اللعبة التي لجأت إليها الولايات المتحدة لتعويم الدور المصري في التسوية الإسرائيلية – الفلسطينية، وخصوصاً أن قرارات الرئيس المصري (المنتمي إلى حركة الإخوان المسلمين) التي هزت الطبقة السياسية والشارع المصري أتت بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من مغادرة هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية للقاهرة. كل هذه الأحداث جعلت المراقبين يتساءلون عما إذا ما قررت الولايات المتحدة التضحية بالديمقراطية الوليدة في مصر، مقابل ضمان أمن طفلتها المدللة إسرائيل كهدف أول، ومن ثم العمل على بذر بذور الفتنة في المجتمع المصري قد تتحول إلى حرب أهلية لمنع نشوء محور إخواني قد يمتد من تركيا إلى تونس، يمكن أن يهدد مصادر الطاقة في الخليج العربي.

شبح الحرب الأهلية ظهر بسرعة في الشارع المصري، حيث فتح ميدان التحرير، إيقونة الثورة المصرية، أبوابه مجدداً أمام آلاف المحتجين من مختلف التيارات السياسية ضد قرارات الرئيس محمد مرسي التي تهدف بنظرهم إلى تكريس الدولة الديكتاتورية وتقضي على دولة القانون والمؤسسات. ولكن المشهد اختلف في باقي المحافظات المصرية، حيث قامت الجموع الغاضبة بمهاجمة مقرّات الإخوان المسلمين ومقرّات جناحه السياسي حزب الحرية والعدالة، وترافق ذلك مع بروز تيار مصمم على مواجهة الإخوان في الشارع بالعنف، وخصوصاً بعدما بدأ مناصرو ومحازبو الإخوان بتشكيل مليشيات تعتدي على المواطنين في شوارع المدن المصرية.

ما يحدث في مصر سلَّط الضوء على تأثير كرسي الحكم على آراء الإنسان الشرقي ومبادئه وأهوائه وتحوّله بالتدريج إلى متسلّط، بمجرد احتكاكه بكرسي الحكم، لا يتردد في استخدام كل السبل في سبيل القضاء على كل من يعوق طريق حيازته السلطة المطلقة.

هذا الأمر أعاد إلى الأذهان التساؤل الذي طرحه الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية: هل كان يجب إيقاف هتلر عند مدينة ميونخ بعد أن بدأت نواياه العدوانية بالظهور، ونوفر على أنفسنا عناء حرب استمرت ست سنوات دمرت أوربا وأتت على خيرة شبابها؟ ولكن هذه المرة طُرح التساؤل بالصيغة العربية، عند أي محطة يجب إيقاف قاطرة الإخوان المسلمين قبل أن تجر المنطقة إلى ما لا يحمد عقباه؟

العدد 1104 - 24/4/2024