أبا عمار… كم من الأقلام الحمراء جفّت بين يديك!

حين أعزم على الكتابة بعيداً عن أبي عمار، يجلس ظله أمام ذاكرتي متأبطاً سيف (لسان العرب، ومحيط المحيط)، فلا تمر فاصلة، أو نقطة، أو مفردة غريبة عن اللغة الأم إلا ويدخل ذاكرتي ذلك  الصوت الجهوري  بكل جسارة.  يطرق باب الحكاية (حكاية اللغة العربية) من أولها، فيقول: (ياولدي، إن اللغة العربية شجرة علينا أن نقلّم الدخيل والشاذ منها  لتبدو أكثر نضارة وتألقاً)، فالترجمات، كما كان يشرح مطولاً، فعلت فعلتها في جمل اللغة العربية منذ بداية القرن الماضي، وأصبحت فيما بعد متداولة وخصوصاً بعد الانتشار الكبير للإعلام المسموع والمرئي،  فأصبحت فيما بعد أخطاء شائعة.   في البداية ينتابك إحساس غريب، حين يقرأ أبو عمار أول مادة تعرضها عليه، يسلط سيف الصواب على الجملة غير الصحيحة قواعدياً، ويغوص في الشرح والدلالة، ولاتغادره حتى يقنعك بالصواب والمعنى. وحين تقترب منه أكثر تكتشف القلب الواسع والكبير الذي يتسع لإحساسات جمالية وفنية كثيرة، وإحساس مرهف بالحياة اليومية رغم التعب والإنهاك.

  أجلس صباح كل اثنين بالقرب منه، أرتقب ملامح وجهه، يضع المسطرة على السطر الأول، ويهيء نظارته السميكة على طرف أنفه، ويدفعها بإبهامه إلى الخلف، ويبحر بالمفردات والجمل، يلتفت إليّ فجأة ويقول، كعادته بلغة ساخرة ومبطنة بالنكتة:  (ام م، شو جايبلنا جديد اليوم؟) يظن الذي يسمعه أنه يقصد المقالة التي بين يديه، في هذه الأثناء أخرج كمبيوتري المحمول من الحقيبة وأُسمعه أغنية (الكرنك) لعبد الوهاب وأترك المحمول على الطاولة حتى يفرغ من تدقيق المادة الصحفية، يهز رأسه، ويردد أدق تفاصيل المقدمة الموسيقية ويقول: (لقد بنى عبد الوهاب في هذه الأغنية صرحاً موسيقياً عظيماً). أحياناً أقدم له أغنية نادرة من خمسينيات القرن الماضي، يفاجئني بأنه يعرفها، بل ويذكر اسم المغني والشاعر والملحن، واليوم الذي بثته إذاعة دمشق وقتذاك.

  أبو عمار…. كم من السطور شهدت على صواب رأيك اللغوي! وكم من المؤلفات والكتب والدوريات أتعبها تركيزك الكبير! وكم من الأقلام الحمراء جفت بين أناملك! وكم من الأوراق طويتها على طاولتك كما تطوي الأيام والسنين!

  فقدناك ياأبا عمار.. وفقدنا روحك المرحة.. فقدتك الجريدة.. واللغة العربية.. سلاماً لروحك الطيبة!

العدد 1105 - 01/5/2024