أي ربيع تحتاج إليه بلادنا؟

منذ اندلعت التحركات الجماهيرية، بشعارات الحرية والكرامة في العديد من البلدان العربية، لا يزال يدور النقاش واسعاً حول تطوراتها، ومآلها، وتوصيفها: ربيع، ثورة، ثورة مضادة .. ويُظهر استمرار هذا النقاش أن العناوين تكون دالة ومعبرة أو خادعة بمقدار تطابقها أو تعارضها مع مضامينها وارتسامها على أرض الواقع، وبمدى توافقها أو تعارضها مع مهام وأهداف المرحلة التاريخية المحددة لتطور البلد المعني. ويبدو أن مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي التي يمر بها العالم العربي ستكون مرحلة طويلة فيها مراحل نهوض وتقدم وإرهاصات ثورية، وفيها نكسات وتعرجات والتباسات. وهي عرضة لتبدّل الاصطفافات الشعبية الطبقية، وتطور التحالفات السياسية، وتتأثر بفاعلية مراكز القوى العربية والإقليمية والدولية وتبدلات.

إن استمرار الأزمة الدامية المدمرة في بلادنا لما يقارب الثلاث سنوات الماضية أظهر أن التصنيف الظاهري للصراع المسلح بين ما يدعى الموالاة والمعارضة لم يعد يستوعب أو يحدد موقف أكثرية السوريين. فهذه الأكثرية غير المشتبكة بالسلاح تعبر عن رفضها لهذا التصنيف الملتبس، وتريد أولاً إنقاذ الوطن من هذا المصير المؤلم، وحماية سيادته، ووقف نزيف الدماء،والمعاناة المرهقة في عيشها، ووقف التدمير للمساكن والمؤسسات والمرافق والخدمات العامة ولمجمل بنى الدولة. وهي لم تعد ترى في كثير من جوانب الصيغة السياسية التي كانت تدار بها البلاد قبل الأزمة أنها قابلة للاستمرار، ولم تعد هذه الجوانب ملائمة لمهام المرحلة القادمة. وهي في الوقت نفسه ترفض كثيراً من الطروح البديلة لفصائل المعارضة المختلفة. ولذلك يمكن تطوير صيغة التحالفات، وتشكيل ائتلاف يعبر عن إرادة أكثرية الوطنيين الديمقراطيين واليساريين من مختلف فئات شعبنا، ومن مختلف مواقعهم في التحالفات القائمة حالياً وخارجها، ائتلاف واضح في برنامجه الوطني الديمقراطي التقدمي، يُسهم في التفاف القوى والطبقات الشعبية حوله، ويعزز مواقع اليسار بين صفوفها، ويسهم في إخراج البلاد من مأزقها وفي ترميم الجراح، وتحقيق المصالحة الوطنية، ويرسم معالم خط تطورها اللاحق، وإعادة الإعمار. إن التحالفات الطبقية هي إحدى أسس الإستراتيجية اللينينية النضالية في عصر الإمبريالية، وكذلك ربط النضال الديمقراطي بالنضال الاشتراكي ربطاً عضوياً، إضافة إلى النضال الأممي ضد جبروت السيطرة الرأسمالية الامبريالية العالمية.

إن محاولة وضع الوطنية مقابل الديمقراطية فكرة زائفة، لأن الديمقراطية تخدم المصلحة الوطنية على نحو أكثر كفاءة من الاستبداد في كل الأوقات، أما الخطاب الوطني لأي نظام استبدادي فلا يتعدى أن يكون إحدى أدوات قمع الديمقراطية. إن السياسة الوطنية الحازمة في مواجهة التآمر الامبريالي الصهيوني الرجعي تفترض إيلاء تحصين الجبهة الداخلية الاهتمام الأول، بتطوير آلية التحالفات، وتعزيز الحريات والعدالة لجماهير الشعب. وهذا يقتضي ضرورة إعادة التقييم للتجربة على ضوء التحولات الطبقية التي غيرت طبيعة الفئات الاجتماعية والقوى السياسية المعبرة عنها. وليس المطلوب انقلاب أحد على تحالفاته، بل تطوير آليات التحالف وآفاقه، فأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية بشكل أساسي هي أحزاب قومية واشتراكية، وبالتالي فهي تحالف يساري، ولكن فيها أوساط يمينية. وحزب البعث العربي الاشتراكي مر بمراحل صراع حاد بداخله بين ما سمي آنذاك اليمين واليسار، وفي فترة ما أقصى الاتجاه اليساري الاتجاه اليميني، واعتمد فكرياً الاشتراكية العلمية. ولكن لأنه يمسك بالسلطة في البلاد، بل ويحتكر ليس مراكز القيادة ومسؤولية الإدارات فيها وحسب، بل أيضاً غالبية فرص العمل وطريق الحصول عليها في معظم المجالات، فقد اندفعت إليه قوى واسعة انتهازية طامحة إلى تحقيق مصالحها، وسهلت خطة الحزب التنظيمية الانفتاحية لها ذلك، حين شرعت منظماته تتسابق وتتفاخر بزيادة أعدادها من مختلف الأوساط الطبقية، وخاصة التنسيب الجماعي للطلبة من مختلف المنابت الاجتماعية، واستمرار التمسك بهذا الأسلوب حتى الآن، في ظل وهم وحدة التوجيه، وقد شهدنا نتائج ذلك بوقوف الكثير منهم أثناء الاحتجاجات في مواجهة موقعهم في السجلات التنظيمية . ونتيجة ظهور فئات بيروقراطية ذات نفوذ، وتشابك مصالحها مع فئات من البرجوازية الطفيلية، فقد عملت جاهدة لدفع البلاد في السياسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي شكلت نتائجها أحد أسباب الأزمة الحالية، فقد شكّل النمط الاقتصادي للسوق الذي اعتُمد في الخطة الخمسية العاشرة تراجعاً عن الأسس التي قامت عليها الجبهة الوطنية التقدمية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وأدت نتائجها إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لأكثرية شعبنا، وتعمّق الفرز الطبقي، فازداد الأغنياء نفوذاً وغنى، وازداد الفقراء عدداً وفقراً، وانهارت الطبقة الوسطى، وتقلص دور الدولة الإنمائي والرعائي. فانخفضت وتائر التنمية وضعفت القدرة الشرائية لأكثرية السكان، ولم تواكب الأجور الارتفاع المتسارع للأسعار، وانتشرت البطالة، وتراجعت شبكة الحماية والخدمات الاجتماعية، وتقلص الدعم الاستهلاكي… بينما تعرضت مؤسسات القطاع العام والمرافق العامة، التي بذل شعبنا كثيراً من التضحيات لبنائها، تعرضت للتضييق ودفعها نحو التعثر والخسارة تمهيداً لتخصصيها أو إفلاسها. في حين تسارعت تحت شعار الاستثمار إجراءات الانفتاح التجاري والمالي، وجرى تحصينها بقوانين وتشريعات، في انحياز واضح لصالح فئة من الممولين الذين اغتنوا من مجالات الاقتصاد الريعي واستغلال موارد الدولة والثروات الوطنية واحتكار السلع الضرورية، وممارسة السمسرة وغيرها من الخدمات الهامشية التي تضمن النسب العالية من الربح دون تقديم قيمة مضافة أو تنمية حقيقة، ومُنحت تخفيضات ضريبية على الأرباح، مع إهمال الجانب الحقيقي للاقتصاد، المتمثل في الإنتاج الصناعي والزراعي. كل ذلك وسّع دائرة الاستياء الشعبي، وأفرز تطلعاً مشروعاً لإصلاحات سياسية اقتصادية اجتماعية. فهل ينهض تحالف للقوى اليسارية تقتضيه المرحلة؟ يصون سيادة الدولة ووحدتها بكل نسيجها الاجتماعي على كامل أراضيها، ويطرد قطعان المسلحين الغرباء، ويعمل على بناء نظام دولة عصرية تعددية ديمقراطية تقدمية مدنية، دولة سيادة القانون واحترام المواطنة وكرامة المواطن، وحماية المكتسبات التي حازتها الجماهير الشعبية بنضالاتها، ودفع البلاد نحو ربيع يساري تقدمي يوقف نزيف الدماء، ويوقف هذا الدمار العبثي لبنى الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ويضع حداً لهذا الانتشار المريع للسلوك اللاأخلاقي والممارسات العنفية المنحرفة التي تفشت في حياة المجتمع، من أعمال القتل بدم بارد والخطف والابتزاز، والتهجير التعسفي، والسرقات، ومجمل مسببات القلق والرعب وعدم الأمان الذي تعيشه الأسر السورية في طول البلاد وعرضها.

إننا من أنصار ربيع يدفع البلاد نحو مزيد من الحريات العامة والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية، ربيع يساري يرفع الضيم والفقر والبطالة والاستغلال والاستبداد الطبقي عن أكثرية شعبنا من العمال والفلاحين ومنتجي الخيرات المادية والثقافية، ولسنا مطلقاً مع ربيع يميني يزج البلاد في أتون الفكر الظلامي والتعصب الديني، الذي يفرض تكبيل العقل بصنوف التخلف، ويصدر فتاوى التكفير والقتل بحق هذا المفكر أو الكاتب المبدع أو ذاك، ويرهن سيادة البلاد للقوى الإمبريالية والرجعية والصهيونية.

نحن مع ربيع يعزز الوحدة الوطنية، ويضمن حق المواطنة الكاملة والمشاركة السياسية والاجتماعية لكل مكونات الشعب السوري، ويهيئ لتحرير الأراضي المحتلة، ولسنا مطلقاً مع ربيع يهدد وحدة التراب الوطني ونسيجها الاجتماعي المتكامل، ويشتت قواها في مواجهة القوى الاستعمارية.

نحن مع ربيع يقطع كلياً مع نهج السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة الخاطئة التي تمسخ أرباب السوق والفساد ومافيات البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية حرية نهب ثروات البلاد. فالبلاد بحاجة إلى الانعطاف بحزم نحو سياسات اقتصادية اجتماعية تنموية تقودها الدولة، توسّع شبكة الضمانات الاجتماعية للجماهير الشعبية، وتضمن التوزيع العادل للثروة المنتجة. نريد اقتصاداً تعددياً يؤمّن الاستفادة من كل الإمكانات المتوفرة، لتحقيق التنمية الاقتصادية، اقتصاداً يزدهر فيه القطاع الخاص الوطني ضمن خطة اقتصادية تنموية مستقلة شاملة ومتوازنة ومستدامة، يقوم فيها القطاع العام بدور رئيسي، وتسهم في حل مشاكل اجتماعية، كالبطالة، وتدني مستوى معيشة جماهير واسعة من شعبنا، وأزمة السكن، والضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والتعليم، وآثار التضخم النقدي، ولتطبيق سيادة القانون على الجميع. إن أي تحرك اجتماعي لا يحدد، إلى جانب الحرية، طابعَ توجّهه الاقتصادي الاجتماعي المنحاز إلى رفع الغبن والظلم عن كاهل الطبقات الفقيرة بوضوح تام، لا يمكن أن ندعوه ربيعاً مجدداً.

إننا مع ربيع يعزز الثقافة الوطنية المعادية للامبريالية والصهيونية والملتصقة بمصالح الفئات الشعبية الفقيرة، ربيع يفسح الآفاق لمختلف مجالات العلوم والآداب والفنون والارتقاء الحضاري، ويرسخ المفاهيم العلمانية في المجتمع وبناء الدولة العصرية، ويحاصر الفكر الظلامي الرجعي التكفيري الاقصائي، ربيع يتيح وينمي ثقافة الحوار الحر الديمقراطي السلمي، واحترام الرأي الموضوعي المختلف، بهدف الكشف عن الحقائق، ويستبعد أي حوار مبتذل يستقوي بغير العقل ويطمس الحق بصراخ الباطل (المعاكس) اللاحضاري والزائف.

إننا مع ربيع يعترف وينهض بدور المرأة ويضمن كامل حقوقها ومساواتها بالرجل، وتحريرها من كل القيود المتخلفة المادية والاجتماعية والقانونية، التي تحد من حريتها وإنسانيتها وطاقتها ومساهمتها الفاعلة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

إن بلادنا تستحق ربيعاً ديمقراطياً، يطلق طاقات شعبنا، ويجعلها نموذجاً رائداً، يوقظ طاقات شعوب ممالك وإمارات ومشيخات النفط، وإسقاط حكامها، ونرفض ربيعاً يستقوي بأموالهم وأفكارهم وعمالتهم للقوى الإمبريالية.

إن المرحلة تقتضي النهوض بتحالف لليسار يقوم فيه بدور رائد في حمل مهام النضال الوطني ضد المشاريع الإمبريالية والصهيونية، جنباً إلى جنب مع النضال من أجل قضايا العمال والفلاحين وسائر المنتجين ومعالجة التفاوت الفاحش في الثروة، ودفاعاً عن الحريات الديمقراطية . إن توحيد جهود اليسار في بلادنا يساهم في توحيد جهود اليسار العربي بكامله، ويعزز تضافر نضال الحركات التقدمية في العالم، في مناهضة العدوانية الإمبريالية ولصيانة السلم الدولي.

باختصار، بلادنا تحتاج إلى ربيع للتجدد والتقدم، تزدهر فيه الحرية والديمقراطية والعدالة، وترفض ربيعاً للتصحر، تهبّ فيه رياح السموم والنكوص وإهراق الدماء. وسيبقى التغيير السلمي مطلوباً، وسيستمر الخلاف حول ماهيته بين من يريد الاستئثار بالجزء الأكبر من السلطة والثروة، ومن ينشد نظاماً أكثر عدلاً وإنسانية.

العدد 1105 - 01/5/2024