معرفة الذات ضرورة لمعرفة العالم

قبل نحو نصف قرن تقريباً، وفي محاولة لمساعدة الناس على الاستقرار الذهني وتطوير ذواتهم، قام عالما نفس أمريكيان، هما جوزيف لوفت وهاري إنغهام، بابتكار نظرية تُعَدّ اليوم واحدة من أهم النظريات في وصف التفاعل الإنساني. وقد سُميت هذه النظرية بـ(جوْهاريِ) اختصاراً لاسميهما.

تعتمد نظرية جوهاري على رسم يشبه شكل نافذة مقسّمة إلى أربعة أقسام بدلالات معينة، يطلق على كل قسم منها اسم محدد يساعد في كشف شخصية الإنسان وتحديد ماهيته، وهي:

 المنطقة المفتوحة، وهي المساحة التي يعرفها الشخص عن نفسه ويعرفها الآخرون عنه، كاسمه وعمله ووضعه الاجتماعي.. وغيرها من المعلومات العامة التي لا تخفى على أحد لأسباب مختلفة تتعلق بهوية الإنسان، الذي يقدم نفسه، كما يعرفه الآخرون، من خلالها.

تليها المنطقة العمياء، وهي المنطقة التي يعرفها الآخرون عن الفرد، ولا يدركها الفرد ذاته عن نفسه. وعادةً ما تكون متعلقة ببعض صفاته النفسية وعاداته السلوكية التي قد لا يعيها الإنسان أو لا يلحظ أنها موجودة فيه، ولكن من هم حوله يشعرون بها ويدركونها، كأن يعرف الآخرون أنه (بخيل) مثلاً أو (غيور) أو (أناني).

ثمّ منطقة القناع، وتشير إلى المزايا التي يحرص الفرد على إخفائها عن الآخرين وعدم نشرها، وذلك لأسباب مختلفة، قد ترتبط بالقيم الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية، وما يعتقد أنه قد يؤثر سلباً على تقييم الآخرين له وبالتالي على مكانته في مجتمعه، كأن يكون الشخص مثلياً في الجنس، أو يكون لصاً، أو غير ذلك من الصفات التي قد تتسبب في إطلاق أحكام سلبية بحقّه.

أما المنطقة الأخيرة فتدعى بالمنطقة المجهولة، وهي المنطقة التي تعبّر عن خصائص وصفات لا يعرفها الإنسان عن نفسه ولا يعرفها الآخرون عنه أيضاً، وهي تظهر عند المواقف المفاجئة والطارئة، أو عندما يكون الإنسان على المحك في أمر خطير يستدعي منه اتخاذ موقف ما بشكل عفوي وعلى وجه السرعة، فيظهر لديه ما لم يكن في الحسبان، ويفاجأ بذاته كما يُفاجأ الآخرون به. وكثيراً ما يحدث أن يقول المرء عند هذه المواقف (لم أعرف نفسي حينها)!

يرى علماء النفس والمختصون أن شخصية كل إنسان تتحدد، عموماً، بمساحة إحدى هذه المناطق واتساعها على حساب غيرها، فالجميع يملك في أعماقه كلّ هذه المناطق ولكن بنسب متفاوتة بين شخص وآخر. والإنسان الذي تتسع عنده المنطقة المفتوحة هو إنسان متوازن مدرك لذاته، متصالح معها، لا يملك ما يخفيه وما يخجل منه، ويمتلك مساحة علاقات كبيرة. في حين أنّ الفرد الذي تمتد منطقته العمياء لتبتلع مساحات كبيرة من ذاته يبقى تائهاً ليستدل دوماً على نفسه بدلالة الآخر، وتضعف علاقاته وكثيراً ما يقع في إشكالات في التواصل مع الآخرين.

أما من تغلب لديه منطقة القناع، فهو إنسان يجيد الكذب على ذاته وعلى الآخرين بحيث يعيش على أكثر من مستوى يخدع نفسه ويخدع غيره. ولا جدال في أن من يغرق في المنطقة المجهولة هو شخص لا يستطيع تقديم شيء لنفسه أو لمجتمعه.

يقول البعض إن الحياة نوافذ تطل على الآخرين نرى انعكاسنا عليها، ونافذة جوهاري في هذا العرض المبسط تقدم مدخلاً سهلاً لمعرفة ذواتنا التي لا نستطيع دونها أن نعرف العالم. إنها دعوة إلى احترام فردانية الإنسان، وإعطائه المساحة الأكبر من الاهتمام، وإتاحة الفرصة له للتعبير عن نفسه بحريّة، بغية خلق أفراد مدركين لذواتهم، متصالحين معها، قادرين على التفاعل الإيجابي والتواصل البنّاء مع مجتمعهم.

العدد 1107 - 22/5/2024