التعصب والظلام

إذا كان النور العلمي يفتح الآفاق ويوسع المدارك والأفهام، ويرسل شعاعه في زوايا الفكر ينير ما أظلم منها ويبدد العداوة بين الإنسان وبين ما يجهله، فيتيح له الانفتاح على ذلك المجهول ومحاولة اكتشافه والوقوف على جوهره، ومن ثم إمكانية تقبله واعتباره جزءاً من حياته وشريكاً له فيها، فإن الظلام هو ذلك الجهل الذي ينشر ضبابه في أرجاء الفكر ويحتل ميادينه ويطارد النور حيثما وجده، ويقيم عداوة بينه وبين جميع الكائنات بشراً كانوا أم جمادات، اللّهم إلا تلك التي تعينه على نشر ظلامه وحماية وجوده.

إذا ذهبنا نبحث في كيفية تشكل هذا الظلام وسماته وسبل التحصن ضده، نقول:

إن الرابطة بينه وبين الجهل ونقص التعلم رابطة وثيقة لا تنفصم عُراها، وليس المقصود بالتعلم تلك المناهج التي تُلقى إلى الطلبة في المدارس فقط، فهذه ليست إلا مفاتيح لبوابة العلم الكبرى التي إن دخلها أحد لا يخرج منها أبداً، إلا أنه في كل خطوة يخطوها بداخلها يرى العجب العجاب من اتساع فهمه واستيعابه للإنسان والكون والحياة.

فإلى جانب هذا العلم يعيش الإنسان بعقيدة وانتماء ديني، وهو ما يعتبر بالنسبة إليه الانتماء المقدَّس، وهذا الانتماء إن لم يُحسَن بناؤه وصياغته وتوجيهه، فإنه يولّد نواة التعصب التي تتابع تطورها لتتحول إلى تطرف، ثم إلى إقصاء واستبداد.

إن التعصب يبدأ بالإعجاب برأي قام عليه دليل أم لم يقم، وصاحب الرأي له الحق في التعبير عنه بكل ما يتاح له من وسائل، ويبقى تصرفه مشروعاً ما لم يدخل دائرة العدوان على حقوق غيره.

فإذا مُنِع من هذا الحق بدأ التعصب بنسج شباكه حول رأيه اعتقاداً منه بصحة ما يرى، وإذا اشتد منعه والتضييق عليه ارتفعت وتيرة تعصبه وبلغت أولى مراحل التطرف، وهي مرحلة العداوة للمانع أياً كان مركزه وسلطته.

وشعور العداوة هذا يولّد الاعتداء الذي يبدأ بسيطاً ثم يتصاعد مع مقاومته إلى اعتداء وحشي، وهنا يبدأ كلا الطرفين بكيل الاتهامات للآخر وتبرئة النفس، وهذا أيضاً يؤدي إلى انقسام الرأي العام إلى فريقين كل منهما يعتبر صاحبه ضحية والآخر جلاداً ويبرر له صنيعه.

وهكذا حتى نصل إما إلى فناء الطرفين أو إلى حرب مفتوحة غير معلومة النهاية والنتائج، أو ينجح الطرف القوي بإسكات غريمه الضعيف، والإسكات قد يكون بالقتل أو بالسجن أو بالنفي والتشريد أو بغيرها من الوسائل. وهو بهذه العملية يخلق من الناجين قنابل موقوتة تتحيّن الفرص المناسبة والظروف المواتية للانفجار من جديد.

إن البشر منذ كتب لهم الوجود على هذه الأرض خُلقوا مختلفين في معتقداتهم ومِلَلِهم، وإن سيرورة تاريخهم في معظم مراحلها ما عرفت إلا التعصب ونبذ المخالف، فعيسى الناصري تعرض وأتباعه للاضطهاد والتعذيب من سلطات اليهود التي ما فتئت تلاحقه حتى ألقت القبض عليه وصلبته، وفقاً لما يعتقده المسيح. ولم يكن أتباعه بأحسن حالاً منه وما تنفسوا الصعداء حتى عهد الإمبراطور قسطنطين، وفي عصرنا هذا نجد ألوان التعصب أكثر من أن تحصى، وليست بلادنا بمعزل عن هذا الوباء وإذا ذهبنا نعدُّ أمثلة نجدها فوق الحصر.

إننا في عالم نعيش صراعاً بين جبهات دينية تتقنَّع بالسياسة، وكل جبهة منها تعتبر قوة عظمى وتسعى لبسط نفوذها ودحر معارضيها.

جبهة تذيب القوميات وتعيش حياتها ديناً ودولة وتعتبر إسرائيل مثالها الدامغ.

وجبهة علمانية تعترف بالدين معتقداً وترفضه دولة كتركيا مثلاً.

وجبهة إلحادية لا دينية ترفض الدين أصلاً ولا تمنحه أدنى اعتراف في حياتها السياسية والاجتماعية وتعتبر روسيا والصين من أعظم القوى المعتنقة لهذا المبدأ.

هذا العالم الذي يسعى اليوم لحل صراعاته سلمياً نأمل منه وندعوه وندعو أنفسنا من قبله لتحويل البغضاء إلى محبة والاقتتال إلى وفاق، وهي دعوة غذاؤها التثقيف ووقودها الاطلاع، وحصنها الحصين التسامح والانفتاح.

العدد 1107 - 22/5/2024