من الصحافة العربية العدد 625

الناحية الفكرية والموقف من سورية

بالرغم من وضوح الوضع في سورية، من حيث التدخلُ الخارجيُّ الامبريالي الصهيوني الرجعي العربي والعالمي، لا يزال هنالك أفراد عندنا يناقشون الموقف ويتحفظون وحتى يعارضون، وهذا مثير لأشد الدهشة، حتى لو كانوا أفرادًا بعدد أصابع اليد، وهذا مناقض تمامًا لموقف الحزب الذي لخّصته اللجنة المركزية بأحد أسباب تراجعنا في معركتي الانتخابات الأخيرتين هو عدم إبراز خصوصيتنا السياسية والفكرية في قضايا ومجالات عدة، وبالأساس الموقف مما يجري في سورية والتدخل الخارجي في مواجهة موقف التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية. الأمر الذي يجعلنا نعتقد أن البعض من هؤلاء الرافضين للموقف لا يملكون القوة الكافية لمواجهة الشارع اليهودي المتأثر بالصهيونية، مع أن هنالك رفاقاً وأصدقاء يهوداً وهم الأكثرية يواجهون ذلك بمنتهى المبدئية والشجاعة.

وقد يكون البعض من العرب لا يحبذون المواجهة مع الحركة الإسلامية والتجمع وقطر والسعودية في معارك الانتخابات بهدف ألا نخسر أصواتاً! كانت النتيجة عكس ما توقعوا تمامًا وعكس ما هو مطلوب.

ما جرى في العراق من تدخل واحتلال ودمار وتحقيق أهداف استعمارية رأسمالية احتكارية لتقسيم الوطن والاستيلاء على البترول ووضع الأساس للاقتتال الملّي والطائفي كان درسًا كافيًا جدًا للتعلم من التجربة.

ما حدث في ليبيا من عدوان وحشي من قِبل حلف الأطلسي الإجرامي كان يجب أن يكون درسًا أكثر من كافٍ.

تهديد إيران والمقاومة اللبنانية وتهديد كوريا الشمالية وتقسيم السودان والموقف من أوكرانيا هي نماذج بارزة عن المخطط والأهداف وعن اصطفاف القوى المتعارضة وعن موقفنا وموقعنا من هذه المجريات، ووقف الحزب الشيوعي ويقف الموقف الصحيح اعتمادًا على انتمائه الفكري في معاداة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية. ولنعدْ إلى الماضي قليلاً:

ندَّد الحزب بحرب حزيران العدوانية سنة 1967 التي شنت بهدف الاحتلال والتوسع، وبهدف القضاء على النظامين المعاديين للاستعمار في مصر وسورية، وعرف الحزب طبيعة وجوهر النظام في سورية ومن أهم ملامحه معاداة الاستعمار. فمن أين بدعة وضع النظام على المشرحة، في الوقت الذي يتعرض فيه إلى حرب إجرامية بهدف إسقاطه، ناهيك برفضنا لكل أسلوب التدخل الخارجي الامبريالي مبدئياً وضد أي نظام.

هذه البدعة مناقضة لجوهر المبادئ الشيوعية والماركسية اللينينية. التدخل الإمبريالي لتغيير نظم ليس جديدًا، هكذا جرى في روسيا السوفييتية ضد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى باشتراك 14 دولة استعمارية. هكذا جرى في الفيتنام، هكذا كان موقف الاستعمار المؤيد لفورموزا ضد الصين الشعبية، هكذا وقف هذا الثلاثي بهدف القضاء على المقاومة اللبنانية. كانت مواقف الحركة الشيوعية بالغة الوضوح أيضاً عندما انخرط شيوعيون من خارج روسيا مع البلاشفة ضد التدخل الاستعماري. وإحدى الصفحات المشرفة لأحزابنا الشيوعية في العالم والعالم العربي ومنها فلسطين، عندما تقاطرت أعداد كبيرة منهم إلى أسبانيا ضد الدكتاتور فرانكو المدعوم من النازية والاستعمار.

ولنحذر جداً من الميل إلى أحزاب تطلق على نفسها ليبرالية أو اشتراكية ديمقراطية وأن نتأثر بها على حساب ثوابتنا، هناك في ألمانيا قُتلت روزا لوكسمبورغ أو روزا الحمراء بأشد الطرق وحشية، هناك قُتل كارل ليبكنخت الشيوعي، ورفضت هذه القوى حتى المساعدة الإنسانية الغذائية للشعب الألماني من قبل روسيا السوفييتية بقيادة لينين. وحبذا لو نقرأ كتاب (البقسماط الأسود) في هذا الموضوع بالذات.

هل الأمر مصادفة أن كل الأحزاب في إسرائيل اليهودية والعربية تقف ضد سورية، حتى وإن اختلفت المنطلقات أحياناً!؟ لكن الهدف واحد.

هل يقف حزب ميرتس الموقف الصحيح في عز الحاجة إلى ذلك، كما حدث في حرب إسرائيل العدوانية ضد لبنان؟! يردعه انتماؤه الصهيوني. هكذا وقف حزب مبام في العدوان الثلاثي على مصر سنة ،1956 وهكذا وقف في الحروب العدوانية تحت شعار: الآن اتركوا جيش الدفاع يقوم بمهامه!. واليوم هذه الأحزاب اليهودية كلها لها الموقف نفسه، وهكذا كان في العراق وليبيا وغيرها الكثير، ما عدا الحزب الشيوعي اليهودي العربي باعتماده على انتمائه الأيديولوجي المعادي أولاً وقبل كل شيء للاستعمار.

كل حزب عربي قومي حقيقي مكانه يجب أن يكون ضد الاستعمار بناءً على الماضي والحاضر. القوميون الشرفاء، مع معارضتهم الشديدة للحكم التركي، إلا أنهم عارضوا أكثر البديل، والبديل كان تقاسم هذا الإرث بين بريطانيا وفرنسا، الدولتين الاستعماريتين الأشد إجراماً في المنطقة، أيامئذ كان وعد بلفور المشؤوم ضد كل العرب. والذين ادعوا القومية ادعاء كاذباً ومضللاً ولمآرب ذاتية ضحكت بريطانيا على ذقونهم، فوقعت العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن تحت الانتداب – الاستعمار – البريطاني والفرنسي.

رجل الدين الحقيقي مكانه ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية – هذا الثالوث الذي صنع نكبة شعبنا العربي الفلسطيني، ويصنع نكبة أشمل اليوم لتطول العالم العربي، فأين هو من قضية الشعب العربي الفلسطيني الواضحة والعادلة!

لو تضع الرجعية العربية ثقلها البشري والسياسي والمالي في فلسطين كما تضعه ضد سورية اليوم، وكما وضعته ضد العراق بالأمس كان ذلك يغير الوضع إلى الأفضل بكثير، لكن ولاءها للاستعمار المجرم حامي عروشها هو همّها، وأموالها الموضوعة في المؤسسات المالية الأمريكية، وبترولها المنهوب نهباً، وشراؤها لهذه الكميات الهائلة من السلاح الأمريكي والمكدّس أو المستعمل ضد شعوب المنطقة العربية يساهم في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي المنهار.

ولنعدْ إلى بعض العيّنات الضيقة من الماضي:

القسم الأكبر من أفراد جيش الإنقاذ العربي دفاعاً عن فلسطين كان من المتطوعين السوريين، الذين لا ذنب لهم فيما حدث من نتائج، الذنب هو ذنب النظم والرجعية والسلاح المحشو بالتراب والرمل، واستشهد كثيرون منهم، وهكذا كان في ثورة عز الدين القسّام السوري الأصل، ناهيك بحرب الـ67.

 

بُعيد الحرب مباشرة تسللت نهاراً…

سنة 1967 وفي شهر حزيران كنت أشتغل عاملاً زراعياً في مستوطنة – يسود همعلا – وبتّ ليلة تحت القصف وليس في ملجأ، بل في غرفة استأجرتها. وبُعيد الحرب مباشرة تسللت نهاراً إلى قطعة أرض من الجولان السوري المحتل قبالة يسود همعلا، ودخلت إلى الاستحكامات السورية، جمعت عدداً من المصاحف والكتب العسكرية والأدبية وعليها دم الشهداء والجرحى، وبعض الصور. وفي الفترة نفسها جاء محاضر يهودي اسمه طوليدانو إلى المستوطنة، وكان سكانها يتكلمون العربية، هناك كانت قرى: عرب زبيد والحمدون وهرادي والملاحة وديشوم وجزاير الحنداج ومغر الخيط، في مرج السنديانة والخيط الذي صادرته إسرائيل من قريتي. كنت عاملا مجتهدًا طيلة أربع سنوات، وعلى علاقة طيبة مع السكان، ومنهم الرجل الذي عملت عنده وهو غير صهيوني ولا يشترك في الانتخابات، ومنهم شيوعي من عائلة (دولنسكي) انشق مع جماعة ميكونس سنيه. كان أول سؤال سأله المحاضر طوليدانو: هل يوجد هنا أناس من غير اليهود! الكل يعرفون من أنا، و(ستّروا) عليّ، خاصة وأنا أجلس على مقعد في الصف الأخير من القاعة. كانت المحاضرة عن سورية والجولان: ومن جملة ما قاله: (أعدى أعدائنا الشعب السوري، وهو شعب مفروض عليه أن يكون شجاعاً جداً بسبب انقسامه إلى طوائف مختلفة مع بعضها، ومنهم العلويون والسنة والأكراد والدروز. والدروز ينحدرون من قبائل عربية وهم عرب أقحاح…

في نهاية المحاضرة قمت وسألت: لماذا تقولون هنا إن الدروز ليسوا عربًا! غضب المحاضر جدًّا وقال: ولكنني سألت هل يوجد هنا أناس من غير اليهود، وأنت كذبت لماذا؟!

قلت: حتى أسمع كذبكم. ضحك كل من كان في القاعة حتى السيد أشكنازي المعروف بعلاقته الوطيدة بالسلطة، وحتى السيد مونيو الطويل المسكين – والسيد بيرغر صاحب الدكان الوحيد في المستوطنة، أما دولنسكي ومعلمي وزوجته وابنته من عائلة سَلَمون فكان من الطبيعي أن يضحكوا أكثر من الجميع. كنت على علاقة طيبة معهم. وكان المحاضر صادقًا جداً في قوله عن شجاعة الشعب السوري وعدائه لإسرائيل وعروبة الدروز، وكاذباً جداً في رأيه عن سبب هذه الشجاعة وكأنها بسبب الاحتراب الطائفي.

سورية بلد فقير، في الهوية لا يصنّف الناس بحسب طوائفهم، كل واحد سوري. حرية المرأة في العلم والعمل المتوفر متوفرة إلى حدٍّ محترم، في المجتمع السوري ملامح هامة من العلمانية وبلا (كبت ديني) من قِبل النظام، مع حرية العبادة بلا تعصب، والأحزاب ليست على أساس طائفي، هناك في هذا المجال الهام نسيج اجتماعي معقول ومقبول، وهناك الجبهة التقدمية فيها بعثيون وتيارات وأحزاب أخرى وتضم الشيوعيين ولهم وزراء وجريدة، لا اعتقد أن هذه الأمور ثانوية أبداً في المساعدة على اتخاذ موقف واضح تضامناً مع سورية وشعبها ووحدتها ونظامها المستهدف ضد التدخل الخارجي الإمبريالي الرجعي، وضد التكفيريين والجرائم كافة الأكثر من وحشية التي يقومون بها، تارة باسم الدين، والدين الحنيف وقيمه السامية ترفض ذلك، والذين يتألبون من مختلف أصقاع العالم، وبأجور مالية مدفوعة من أموال دنسة، خاصة أن البديل للنظام القائم والممانع والمعادي للاستعمار هو هذه الوحوش البشرية البدائية التعصبية.

أن يكون أي نظام اليوم، بعد انهيار الحليف الاشتراكي، يقول لأمريكا وإسرائيل: لا، هو نظام يجب الدفاع عنه، ولنتركْ لشعبه حرية التعامل معه بلا أي تدخل امبريالي، هذا هو المقياس.

محمد نفاع

(الحوار المتمدن)، 3/5/2014

العدد 1107 - 22/5/2024