بعد عامين من الأزمة الخارج يناور ويصعّد… والداخل مدعو للتوافق عبر الحوار

عامان.. وأزمتنا الوطنية تعصف باستقرار مجتمعنا، ومازالت دماء المواطنين في مختلف المناطق تنزف بغزارة، ويستمر التخريب المتعمد لكل ما أنجزته الأيدي العاملة السورية الخيّرة في العقود الماضية، وتتساقط منشآتنا الحيوية، وقطاعاتنا المنتجة. وأملاك المواطنين، مهدمة.. محروقة، ويسيطر القلق على نفوس المواطنين من استمرار مآسي هذه الأزمة رغم جميع الجهود التي تُبذل في الداخل والخارج، بهدف عودة الأمن والأمان إلى ربوع بلادهم.

لقد تضافرت العوامل السياسية والاقتصادية الاجتماعية في الداخل، مع التدخل الخارجي السافر الذي تقوده قلعة الإمبريالية العالمية، بمشاركة ورثة الاستعمار الأوربي القديم، ومشايخ النفط، والحالمين بعودة الانكشارية، في انفجار الأزمة السورية، وكان لهذا التدخل أثر بالغ في صبغ هذه الأزمة بالعنف والتصعيد وإراقة الدماء.

إن طموح الشعب السوري إلى التعددية والديمقراطية كان مطلباً عبرت عنه فئاته المختلفة قبل الأزمة وخلالها.. فاستمرار وجود حزب على رأس الدولة والمجتمع، رغم ما أنجزه في العقود الماضية، كان عاملاً في استبعاد الآخر الوطني، وغياب تداول السلطة فتح المجال لارتكاب التجاوزات، وغياب المحاسبة ترك أثراً سلبياً على العلاقة بين السلطة السياسية وأفراد الشعب.. وجاءت القوانين الجديدة للأحزاب والإعلام والدستور، رغم بعض التحفظات على العديد من النقاط، والتي يمكن تعديلها في المستقبل، لتفتح باباً أمام إمكانية تجديد النظام السياسي للبلاد.

كذلك فعلت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقد الماضي فعلها في إثارة غضب الجماهير الشعبية، التي شعرت بسبب معاناتها المعيشية الاجتماعية، أن الدولة تراجعت عن دعمها للفئات الفقيرة والمتوسطة، وانحازت إلى الفئات الثرية.. المالكة.. المستثمرة.. والأغنياء (الجدد)، في الوقت الذي كانت فيه جماهيرنا الشعبية تنتظر تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، تنهض الاقتصاد الوطني، وتلبي متطلبات التنمية الاجتماعية، للخلاص من الفقر والبطالة والتخلف، وتعيد توزيع الدخل الوطني بين فئات المجتمع، استناداً إلى مبادئ العدالة الاجتماعية.

لكن هذه العوامل الداخلية تبقى أموراً تخص السوريين وحدهم، وهم قادرون على حل أزمتهم بوسائلهم السلمية، عبر خلافهم وتوافقهم.. أمور تخص القوى السياسية السورية، وبضمنها قوى المعارضة الوطنية، والجسم الاجتماعي السوري بمختلف أطيافه السياسية والاجتماعية والدينية والإثنية.

لقد وجد التحالف الدولي المعادي لسورية، الذي تقوده الولايات المتحدة في الأحداث السورية، فرصة قد لا تتكرر لتطويع السياسة الوطنية المعادية للإمبريالية والصهيونية، وتحقيق المخطط القديم.. الجديد بإنشاء فضاء إقليمي يضمن استمرار هيمنة الولايات المتحدة على ثروات المنطقة، ويعيد الأوربيين إلى الأسواق القريبة، بعد أن دخلت أزمتهم مرحلة الاستعصاء.. ويبدد قلق أمراء النفط من الانتفاضات الشعبية التي ملأت شوارع المدن العربية، ويطلق يد العثمانيين الجدد للغزو الاقتصادي، بعد أن تبدد حلمهم أمام البوابة الأوربية.

استنفر هذا التحالف كل وسائله الإعلامية والمالية والعسكرية، وبضمنها تعاونه مع أشد المنظمات السلفية الإرهابية إجراماً، لتحقيق أهدافه، وسخّر إمكاناته الهائلة لإرسال المتسللين (الجهاديين) المدججين بالسلاح الأمريكي الأوربي، المحملين بملايين الدولارات النفطية، عبر حدود الجار (العثماني) الذي فتحت له سورية أبوابها قبل سنوات، كشريك وشقيق، لتخريب سورية، ونسف استقرارها، ومنع أي حل سياسي لأزمتها لا يتيح لهم تحقيق مآربهم.

وجاءت المبادرة الرئاسية لحل الأزمة السورية بالطرق السلمية، لتفتح أمام السوريين آفاقاً جديدة، عبر حوار وطني شامل، تساهم فيه أطيافهم الوطنية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها السياسية والاجتماعية والإثنية، وهذا ما أفزع قوى التحالف المعادي لسورية وشعبها.. كذلك أصابهم القلق بعد التغيير الطفيف في المقاربة الأمريكية للأزمة.. هذا التغيير الذي لا نعتقده من قبيل الواقعية السياسية، أو عودة الوعي، بل هو استمرار للمناورة واللعب على الحبال وتصدير المواقف (المناسبة).

الأمريكيون يناورون.. يقاربون جوهر الحل السلمي الواقعي في حوارهم مع الصديق الروسي، ويذهبون بعيداً في تصعيد الإرهاب السلفي في سورية بتقديم المساعدات المالية واللوجستية والتدريبية للجماعات التكفيرية.

الفرنسيون والبريطانيون الذين استنفروا الاتحاد الأوربي لتسويق مواقفهم المعادية لسورية، ولأي حل سياسي لأزمتها، يرفعون (العيار) ويصعّدون في ندوتهم الأوربية لإلغاء حظر إرسال السلاح إلى الجماعات المسلحة، ثم يحصدون الثمار من عقود التسليح في مشيخات الخليج.

ومع عدم إنكارنا لتأثيرات المناخ الدولي في المساعدة من أجل حل أزمتنا الوطنية بالطرق السياسية، وتأييدنا للجهود الروسية والصينية والإيرانية ودول مجموعة البريكس، والعديد من الدول المحبة للسلام التي تصب في هذا الإطار.. نرى أن شعبنا قادر على حل أزمته إذا ما اعتمد الحوار بدلاً من السلاح.. وهذا مادعونا إليه منذ بداية الأزمة السورية، وهذا ما سنسعى له مع جميع الوطنيين والقوى السياسية الوطنية.

الحوار الوطني الشامل يمثل بعد عامين من الأزمة التي تهدد وجود سورية واستقرار شعبها، فرصة سانحة للجميع. فالتوافق على ميثاق وطني سياسي.. اقتصادي اجتماعي.. مجتمعي.. يفتح الآفاق ويقوي الآمال لدى المواطنين السوريين بمستقبل بلادهم الديمقراطي.. العلماني.. المعادي للإمبريالية ولكل أشكال الهيمنة.

العدد 1105 - 01/5/2024