جنون العاطفة يروي موات الأحياء

حين نصغي لوشوشة الروح فينا، يسكننا هدوء التوقع، ويستغرقنا التوسع نحو صفاء الفهم.. فتتلاشى ببطء متاهات العقل وأحابيله المضللة، وتتبعثر أوهام التجريد وسفسطة الكلمات الغاربة، لتنجلي عن نشوة الأمل المكتنز بسعادة ملامسة الوجد والامتنان لهبة الوجود.. وحين تنتهي مهلة الإصغاء نكون قد أصبحنا في مقام الدهشة حيث يُحمد الله.. وعن تفاصيل احتواء تلك الدهشة تقودنا بذكاء عاطفي جميل المخرجة الأمريكية Jessica Biel في فيلمها الجديد (The truth about Emanuel)، لتضعنا في متن الشفقة الرحيمة التي تبني عرش البهاء..  يبدأ الفيلم بمشهد مائي يوحي ببدء التكوين في رحم الكون، ومنه ينتقل إلى صورة تمثل مراهقة تغسل وجهها أمام المرآة. لتزرع بكلمات موجزة في المتلقين قلق ذاتها المشتتة الذي رافق حياتها المنتزعة من صميم الموت، المغلف بكراهية الشهوة التي بذرت الثمرة في رحم الأم ثم قتلتها أثناء المخاض. وهي كراهية تتلبس جلد الذات وتتبنى احتقار النوع الإنساني اللاهث وراء إرواء الشهوة الجنسية، دون أن يخفف من غلوائها تضحية الأب الوحيد وتفانيه في تربيتها. تغطي الأحداث سياق عام واحد من حياة الفتاة وتدعى إيمانويل، ما بين السابعة عشرة والثامنة عشرة. وخلال هذه الفترة تتصاعد عدائية المراهقة نحو زوجة أبيها التي لا تنجب، وتستطيل لتشمل كل من يلتقيها في عملها وفي تنقلاتها بالقطار، حيث تتعرف على شاب من عمرها كرد فعل على زواج أبيها. ثم يحدث الانعطاف عندما تنتقل أم شابة وحيدة مع طفلتها الرضيعة لتسكن بجوارهم. فيدشن الفضول الحوار العاطفي بين المرأتين، تحت ذريعة الحاجة إلى جليسة أطفال، ليتحول إلى صداقة وتواطؤ صامت يتستر على صدمة إيمانويل عندما تكتشف هوية الطفلة: دمية بوجه إنساني. ومع تواتر الأيام تتقبل إيمانويل الأم كأخت لها، وتفسح في قلبها مكاناً للحب والاستسلام بحذر للأنثى في داخلها. وحين تتشجع الأم على خوض علاقة عاطفية، تبادر إيمانويل لحماية الطفلة الدمية، وإخفائها عن أعين الفضوليين. أي تدعم غريزياً صمام الأمان الذي يمنع عقل الأم من الجنوح نحو الجنون. ولكن الحماسة المبالغة تدفع الأم لمشاركة السر مع العشيق، مما يحدث خللاً يعقبه انهيار نفسي للمرأتين معاً. فتنقل إيمانويل إلى المشفى حيث تزورها أمها الميتة، وهي تحضن طفلة المرأة الثكلى وسط الماء. فتتصالح إيمانويل مع ذاتها المشروخة، وتدرك صلة الحياة بالموت وسر الولادة وصيرورتها المتشاركة بين النساء..

تأخذ إيمانويل الدمية وتقتحم مشفى المجانين، حيث أُودعت الأم التي لم تتصالح مع حقيقة موت طفلتها الوحيدة. وهناك تعطيها الدمية وتأخذها خلسة إلى المقبرة تحت جنح الظلام. وأمام قبر الطفلة تحفر التراب وتخلع معطفها القصير لتكفن الدمية به. ثم تسلم الأم حفنة من التراب، لتهيلها فوق وجه الدمية، قبل أن تكملا رمزية طقوس الدفن. وكأنها تقودها نحو تقبل حقيقة الموت، فتكتمل نفحة التشارك الأنثوي لسر الولادة والحياة، وألم الحنين الملازم للانفصال عن الأحبة. وتختمر الفكر، في مشهد استلقاء المرأتين على الأرض لتأمل النجوم وملامسة سر الكون. أدارت المخرجة مشاهدها بالاتكاء على خلفية المشاعر المتوارية خلف أقنعة الوجوه الخادعة. فإيمانويل كانت منعزلة هادئة الملامح، بينما تسترت الأم بمرح الانفعالات وعفويتها التي قد تمنح الانطباع بتوازن الشخصية. أما زوجة الأب فكانت تصرح بقلقها وشعورها بالنقص لعدم إنجابها. وكأن اتصال الحلقة النسائية بين الثلاثة، ينتظر فقط لحظة المكاشفة، ليمدّ الكون بنبض أنثوي خلاق، في إشارة خفية إلى ماهية الرحمة التي سبقت العدل. فجنون العاطفة لا يقتل الحب بالضرورة، بل قد يحيي بوار نفوس تلبست بالموت لتخفي تعطشاً جارفاً للحياة..

العدد 1104 - 24/4/2024