«سارقة الكتاب»… الذاكرة صورة الروح

بين الكاف والنون تواترت الصور وزينت فراغ العدم.. وبين المبتدأ والمعاد اصطفّت الحروف، ونسجت حكايات الشغف الذي استعار نشوة الخلق، فرتّلت الكلمات صلاة العاشقين وأسدلت حُجُبهم.. وحين تنفس الكون وجداً تمدد الزمان وأمهل المتأخرين، ودار الخلق حول المعشوق انتظارَ الفناء في البقاء.. وهذا الدوران أفسح للكلمات هيكلاً لتتناسل فيه، فكان الإسفار والكتب، وأيضا المحارق والتخفي والإلغاز، وقامت الذاكرة صورة للروح.. وعند إحدى هذه المحارق المخزية ولدت حكاية فيلم (The book thief – سارقة الكتاب)، لتذكّر بخطوات إنسانية تاهت عن حزنها الأزلي، لما تعبدت في محراب الحروف وأسرارها المنغلقة.

يضعنا المخرج (Gray Ross) منذ اللقطة الأولى في مهد الموت، مبدداً التوقعات الحالمة بخلود معلّق بأستار الأوهام.. فبين موت الأجساد وموات النفوس، تستعير الأرواح الكلمات لتمرّر همساتها إبان تقيدها في قمصانها، همسات توشوش لنا أن العتبات مفتوحة لمن يجيد الإصغاء.. والعتبة قد تتلبس شكل كتاب محترق، تلتقطه بطلة الفيلم إليزا Sophie Nelisse)) لتنقذه من محرقة للكتب أشعلتها القوى النازية في إحدى المدن الألمانية الصغيرة إبان حكم هتلر. فترصدها زوجة قائد نازي فقدت ابنها عاشق الكتب في الجبهة، وتتستر عليها خشية اعتقالها بتهمة التمرد. وحين تراها مجدداً وهي تحضر الثياب المغسولة إلى منزل القائد، تدخلها إلى جنة الكتب العائدة لولدها، وتسهّل لها قراءتها أمام ناظريها، لتعود الفتاة فتدوّن الكلمات الجديدة على جدران قبو منزلها.. وليزا التي اعتبرت من غنائم الحرب بوصفها ابنة شيوعيين، وطّنت في منزل عائلة ألمانية حرمت من الأطفال، فتعلمت القراءة في قبو المنزل بمساعدة رب الأسرة العطوف. ووجدت في تدوين الكلمات الجديدة فوق جدران القبو، حياة متألقة تتجاوز قهر المنفى.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، يلجأ شاب يهودي هارب إلى منزل الأسرة، كي يختبئ من ملاحقة النازيين. فتنشأ صداقة مميزة بين الفتاة ذات الاثني عشر عاماً والشاب البالغ من العمر تسعة عشر عاماً، قوامها تأمّل الكلمات المدونة على جدران القبو، وإنعاشها بالصور التي تهدئ حنين الذاكرة. وحين يمرض الشاب المختبئ في القبو ويشارف على الموت، تواظب إليزا لمدة عامين على قراءة الكتب له بصوت عال، لتذكي فيه جذوة الحياة الخابية، وتخادع الموت المتربص به. أما الكتب فتختلسها من مكتبة ابن القائد، الذي تغسل والدتها ملابسه مقابل نقود قليلة تسد رمق الأسرة المهددة بالجوع.

ولأن الحرب تستدعي ذخيرة الشجاعة في النفوس المحاصرة بالقهر والحرمان، يتحدى الأب باستعطاف خجول، ترحيل جيرانه من العائلات اليهودية نحو المحرقة، فيرسَل إلى الجبهة عقاباً له. أما إليزا فتغالب الخوف والهلع في الملجأ أثناء الغارة الجوية، وتسرد حكاية متخيلة تستقطب الأنفاس المتحفزة القلقة، وتمتص منها أعباء الانتظار المرير. وبعدئذ تدشن عهد الكتابة في قبو المنزل عقب رحيل اليهودي الشاب، وتلملم في دفترها شتات مَنْ غيّبتهم قساوة الحرب. واعتكافها في القبو ينجيها من موت استدعته قذيفة حاقدة، اغتالت من كانوا عائلتها وأصدقاءها، لتبقيها وحيدة في مواجهة دمار الأرض وخراب النفوس.. وهنا تشتعل صورة الكتاب الملتقط من رماد المحرقة، التي خزنتها زوجة القائد في ذاكرتها، صدىً لولدها المغيب. وتكتسب الذكرى واقعية في لبوس الحضن الأمومي الدافئ لأم ثكلى، تجد في الصبية الوحيدة منفساً لعاطفتها المجهضة. فتنجو إليزا من براثن الأسى، وتجتاز بأمان ما تبقى من أيام دامية في جعبة الحرب، قبل أن تحظى بلقب الكاتبة الشهيرة.. وبعد سنين يتغنى الموت مفتخراً بقبض حياتها المديدة، التي أدفأت قلوباً كثيرة بكلماتها عن حيوات غيّبها الموت.

العدد 1104 - 24/4/2024