عيد الشهداء لن يموت شعب يقدم التضحيات

تكاد أن تكون الشهادة عنواناً موحداً لمعظم قيم شعوب الدنيا ومثلها، والاحتفال بالشهادة وعيدها له دلالات سياسية، تتجلى في الوفاء للقيم النبيلة والدماء الزكية، والتضحيات الجسام التي قدمها الشهداء، سواء أكانت من أجل قيم دينية، أو وطنية، أو تحررية، أو فكر نير، أو علمي مبدع. أما في بلادنا، فيوم السادس من أيار يهل علينا كل عام بوصفه اختصاراً لتاريخ شعبنا بأكمله، هذا الشعب الذي امتلأ تاريخه الطويل بمرارات وعذابات لا حصر لها، من الغزوات والاحتلال والثورات والانتفاضات والتمرد.. فأصبحت أرضنا منبعاً ومأوى للثوار، وحصناً للأحرار، لأن شعبها رفض على الدوام العبودية والاستعمار والاستبداد.

ففي عامَيْ 1915 و1916 أقدم المستعمر العثماني على سلسلة من عمليات الاغتيال والإعدام لباقة من المثقفين والسياسيين العرب، إثر سطوع الحركة القومية العربية ونهضتها الرائدة، ورفضها لكل أشكال العثمنة وطمس العروبة، وكانت قصيدة الشاعر إبراهيم اليازجي التي مطلها:

تنبهوا واستيفقوا أيها العرب

فقد طمى السيل حتى غاصت الركب

خير مثال على هذه الحركة التي انطلقت في مطلع القرن التاسع عشر، وكان الاستعمار التركي قد أعدم ذوقان الأطرش، والد سلطان باشا الأطرش، وآخرين مثل يحيى وهزاع عز الدين، ومحمد القلعاني، وحمد المغوّش وغيرهم، وذلك لتمردهم على السلطة العثمانية.. وفي عام 1915 أعدم جمال السفاح الخوري يوسف الحويل شنقاً في دمشق، ونخلة المطران الذي أعدم في الأناضول، والشقيقان أنطوان وتوفيق زريق من طرابلس الشام شنقاً في دمشق .1916. وكذلك يوسف سعيد بيضون وعبدالله الظاهر، والشقيقان فيليب وفريد الخازن.. وفي العام التالي أعدم بعض شيوخ العشائر مثل محمد الملحم وفجر المحمود وشاهر العلي، كما أعدم الشيخ أحمد عارف مفتي غزة، وولده شنقاً في القدس.. إلا أن الإعلان عن الحكم بالإعدام على 21 مناضلاً ومثقفاً وإعدامهم في بيروت ودمشق عام 1916 في السادس من أيار، كان الحدث الأبرز، فقد أعدم في دمشق شفيق المؤيد العظم، عبد الحميد الزهراوي، الأمير عمر الجزائري، شكري العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رفيق رزق سلوم، رشدي الشمعة.

وبذلك انطلقت صرخة الحرية، وما هي إلا أشهر معدودة حتى أطيح بالمستعمر العثماني، لكن مستعمراً جديداً فرنسياً كان يتربص بهذه الأرض وأهلها الأحرار، وأصبح هذا اليوم ذكرى لجميع شهداء الوطن الأبرار.. ورفدت قوافل من الشهداء قافلة الشهداء الأولى على يد المستعمر العثماني، منها من سقط في النضال ضد المستعمر الفرنسي والإنكليزي في سبيل الاستقلال والحرية وسيادة الوطن.. ونحتفل بعيدهم في يوم الجلاء في السابع عشر من نيسان، وبعدها قوافل الشهداء في مواجهة المستعمر المحتل الصهيوني وكيانه الغاصب.. ولن تتوقف قوافل الشهداء إلا بتحقيق التحرير الكامل للجولان الحبيب، ولواء إسكندرون وفلسطين الغالية وجميع الأراضي العربية.. وها هي ذي اليوم قوافل الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء وجنود الجيش العربي السوري تتساقط دفاعاً عن كيان الدولة السورية ووحدة أراضيها في مواجهة الأطماع الاستعمارية والتآمر الرجعي والفكر التكفيري.. وبقي الشعب العربي السوري يستذكر شهداء السادس من أيار ويحتفل كل عام باستشهادهم، وأطلق اسم (ساحة الشهداء) على كل من ساحتي المرجة في دمشق والبرج في بيروت.. وأقرت المناسبة رسمياً للاحتفال في السادس من أيار يوماً لكل الشهداء، في عام ،1937 بالرغم من محاولة سلطات الانتداب الفرنسي عرقلته، لما فيه من تثبيت لروح التضحية والفداء في سبيل حرية الوطن واستقلاله. وكان لأعضاء حزبنا الشيوعي السوري الذي سمي (حزب الجلاء) شرف الشهادة دفاعاً عن الوطن، في مواجهة المستعمرين والرجعيين، من أجل المصالح العليا لجماهير الشعب.

أما في هذا العام فإن العيد ضيف ثقيل، لما يحدث في بلادنا من مآس، متمنين انتهاءها بأسرع ما يمكن، ولكننا ندرك، في هذا اليوم المشهود، أن من ليس له ماض مشرف لن يكون له حاضر لائق ومستقبل مشرف.

وفي أزمتنا الوطنية، كأن التاريخ يعيد نفسه، فأكثر الدول عدوانية على سورية وشعبها هي الدول المستعمرة لها سابقاً (تركيا، فرنسا، بريطانيا)، مضافاً إليهم أدواتهم في المنطقة، والإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية.

وفي هذا اليوم العظيم، وفي هذه اللحظات التاريخية التي يمر بها شعبنا من ظروف بالغة الخطورة والتعقيد، لابد لنا من مواجهة الإرهاب، وفكره الإقصائي، جنباً إلى جنب، مع الإسراع بعقد الحوار الوطني، واستمرار مسيرة التصالح والتسامح والتضامن الوطني، لأن الشعوب الحية تجعل من انكساراتها انطلاقة لانتصاراتها، وما عجز عنه الاستعمار العثماني والفرنسي والصهيوني في محاولته تركيع شعبنا وطمس تاريخه، لن تحققه قوى الرجعية والتفكير والظلام مهما بلغ تآمرها.. لن يستطيع أحد انتزاع هذا التاريخ من وجدان شعبنا السوري، وستبقى زهور الشهداء التي زينت صدر وطننا تستدعي التاريخ التحرري، وتبعث وتنتج روح المقاومة والصمود والاستبسال والثبات.. ولن يموت شعب يقدم التضحيات من أجل الحفاظ على كرامة بلاده، وضمان مستقبله الملبي لطموحاته المشروعة.

العدد 1105 - 01/5/2024