الأم وتحديات الواقع

في كل عام في الحادي والعشرين من آذار نحتفل بعيد الأم تعبيراً عن امتناننا لكل جهد تبذله في سبيل الحفاظ على أطفالها وأسرتها، وإشهاراً لحبنا الكبير لها، تلك الأم التي لا نستطيع وصفها بكل ما تحمل الدنيا من أوصاف جميلة، ففي هذا اليوم عندما ندخل أي منزل وفي جميع المجتمعات نجد الأولاد مجتمعين ومحتفلين بوالدتهم باذلين كل جهدهم لإسعادها، ليعبروا عن فرحهم بوجودها إلى جانبهم، وبحنانها الذي لا ينتهي عطاؤه مهما تقدمت في العمر..

ولكن مع الظروف الراهنة التي نعيشها على مدار هذه الثلاث سنوات من التهجير والتدمير والألم، ومع كل عام يأتي تزداد معاناة الأمهات أكثر، وتزداد أعداد الثكالى اللواتي فقدن أحداً من أولادهن بفعل تفجير أو تساقط قذائف هاون هنا وهناك، ومنهم فقدوا وهم يؤدون خدمة الوطن بكل شرف واعتزاز..

ومع كل الفرح والسعادة الذي يجلبه عيد الأم، لم تشعر به (أم إسماعيل)، تلك الأم الثكلى، بل شعرت بطعم المرارة والحزن على مدار عامين من وفاة ولدها الوحيد إسماعيل، فعندما التقيت بها في الحديقة العامة وجدتها امرأة في الخمسينيات من العمر، والحزن البادي على وجهها لم ينكره لسانها، واقتربت منها أحادثها وأسألها عن بعض أسباب حزنها فسألتها: ما كان شعورك عندما أصبحت أماً في المرة الأولى؟

 قالت لي: يا بنتي، عندما كنت في العشرين من العمر أنجبت في المرة الأولى وقد كانت فتاة وقد سعدت كثيراً وكان شعوري بالفرح لا يوصف، فأحسست بالمسؤولية تجاه ابنتي وبأن علي أن أحسن تربيتها وأحميها، وأني بدونها لن أكون شيئاً، وأنجبت بعدها ست فتيات وولداً وحيداً أسميته إسماعيل، وقد أنجبته في عيد الأم، فكان العيد عيدين بالنسبة لي، فقد كنت في المشفى حين أتى إليّ بعض المتطوعين وقدموا لي باقة ورود وهنؤوني بعيد الأم، فهذا يوم لن أنساه طوال حياتي.

وتابعت بتساؤلاتي: هل لك أن تقولي لي عن سبب حزنك ؟

فأجابت : كلمة الحزن هي صغيرة جداً مقارنة بالذي أعيشه الآن وأشعر به أيضاً، فمنذ عامين فقدت أغلى ما عندي وهو ولدي الوحيد الذي لم أستطع أن أرى حفيداً منه، ففي اليوم الذي توفي فيه ابني إثر قذيفة هاون سقطت في الجوار لم أستطع أن أستوعب هذا الشيء الذي حصل، كانت صدمة لي لن أنساها أبداً، فقد خسرت شيئاً لن أستطع تعويضه، فأي حزن تتحدثين عنه؟ فهو أصغر المشاعر التي أعيشها ففي يوم ميلاد ابني هو يوم عيد الأم، فما دمت على قيد الحياة لن أحتفل بعيد الأم، فالنسيان صعب ولن أستطيع التغلب عليه أبداً..

سألتها: ماذا تقولين لكل أم سورية فقدت ولدها؟

لا أظن أن هناك عيداً للأم، فسورية شهيدة وأكثر الأمهات السوريات لديها شهيد وسأقول ولو كنت أنانية بعض الشيء لمَ الاحتفال ولمَ العيد ويومياً يموت الكثيرون؟!

تركت أم إسماعيل وأنا مقتنعة بوجهة نظرها، فلا أحد يشعر بالآخر إلا إذا جرّب ما يعيشه، وهذا ما يحدث معنا الآن، فأم إسماعيل لم تعد تشعر بعيد الأم لأنه صار ذكرى مؤلمة لديها..

ولكن أم سعيد التي التقيتها في المشفى بعد ولادتها وهي تقطن في مركز للإيواء كان لها وجهة نظر أخرى، فقد أجابتني عن سؤالي وهو: ماذا تعني لك كلمة أمومة وأنت التي تجربينها للمرة الثالثة على التوالي؟

أجابتني: الأم هي رمز للحب والحنان والعطاء، فالأمومة هي شيء جميل جداً قد كنت أشعر به وأنا فتاة صغيرة عندما كنت أحمل لعبتي وأحضنها وكأنها ابنتي، ولكن عندما أنجبت ابني الأول شعرت بالشعور الحقيقي للأمومة، وكنت في كل عام بعد إنجابي لابني وابنتي أحتفل وأجعله احتفالاً مميزاً وخاصاً أيضاً، وزوجي لم ينسَ إحضار الهدية لي بهذه المناسبة، وحتى الآن وبعدما أنجبت طفلتي وأنا مهجرة من منزلي وأسكن في مركز للإيواء لن يتغير شيء بالنسبة لعيد الأم، سأحتفل مع عائلتي ولو بالشيء البسيط، ولن أدع ما يحدث معنا يؤثر على عاداتنا ومبدئنا في هذه الحياة..

سألتها: ماذا تقولين لكل أم فقدت ابنها، وطفل أو شاب فقد والدته في هذه الأحداث؟

الأم هي رمز للحب والحنان والعطاء، فلكل أم فقدت أحداً من أولادها أقول: عليك أن تزرعي الأمل في قلبك بأنك عندما تفقدين شيئاً تحبينه تعوضين بشيء آخر، وربما سينسيك الذي فقدته، فحرمانك من ولد قد يعوَض بولد آخر من أولادك وقد يكون عطوفاً عليك أكثر من ولدك الذي فقدته، وأما لمن فقد والدته فاجعلوا يوم عيد الأم يوماً تحتفلون فيه بوالدتكم بأن تفعلوا الأشياء التي تحبها واصنعوا من أجلها جواً كما لو كانت على قيد الحياة قد تسعد به، وقوموا بكل هذا وكأنها موجودة معكم، فلن تتوقف الدنيا عند خسارة أحد، بل سنكمل كي يأتي غيرنا يكمل ما بدأناه، وهكذا هي الحياة..

العدد 1105 - 01/5/2024