كي لا ننسى: عبد الجليل جرجنازي (1935-2012) (2/2)

العمل في بناء سد الفرات

في أواخر الستينيات انتقلت إلى مدينة الطبقة، وعملت في مديرية النقل، وكلفت، فوراً، بإدارة ورشة هامة تقوم بإصلاح أجهزة نقل الحركة.

كانت الطبقة خالية من خدمات أو مسؤولين حكوميين. كانت هناك مؤسسة سد الفرات ومديرها العام والعاملون فيها، ومكتب نقابة واحد، مثّل الحزب فيه الرفيق عبد السلام جالا (أبو صالح) الذي توفي منذ عدة سنوات، وقد كان خيرَ من يمثّل الحزب في النقابة.

بعد مضي وقتٍ قصير انتخبت عضواً في اللجنة المنطقية للحزب.

ازداد عدد العاملين في بناء السد بوتيرةٍ عالية ووصل إلى أكثر من عشرة آلاف عامل سوري وإلى أكثر من ألف خبير سوفييتي. كان أغلب العاملين من الشباب وهم يعملون في ثلاث ورديات، كخلية نحل حقيقية.

احتاج الوضع إلى توفير خدمات للعاملين من توفير المياه والغذاء والطبابة والدواء والسكن. ولعدم توفر مساكن كافية للجميع لجأ الكثير من العمال إلى بناء بيوت، على نفقتهم الخاصة، وهكذا شيّدت قرية الطبقة ثم قرية الوهب، التي كانت خدماتهما أقل بكثير مما بنته الدولة في أحياء المدينة التي سميت، لاحقاً: مدينة الثورة.

درست اللجنة المنطقية وكذلك مكتب النقابة أوضاع العاملين واقترحت خططاً لتحسين تلك الأوضاع، وكان التعاون بين النقابة ومنظمتي الحزبين الشيوعي والبعث وثيقاً في هذه المجالات، وتعاون المدير العام وإدارة المؤسسة في تنفيذ الخطط المقترحة.

يمكنني القول إن اللجنة المنطقية للحزب كانت تعمل ليل نهار، فهي كانت أكثر من منظمة سياسية، بل كانت أيضاً مكتباً نقابياً ومكتباً للعمل لأجل تقديم الخدمات للعمال، كما كانت تساعد حتى في حلِّ المشاكل الشخصية والعائلية لهم.

ولكن هدف المنظمة الرئيسي كان دفع مسيرة العمل عبر إنجاز البرامج في أوقاتها الزمنية المحددة وبالنوعية العالية المطلوبة، بل إن الموضوع الذي خصصت له الأجزاء الأكبر من اجتماعاتها الأسبوعية كان متابعة تقدم أعمال بناء السد..

تطلّب ازدياد المهام النقابية وتلك المرتبطة بتنفيذ المشروع قيام لجان نقابية حول مكتب النقابة. درست اللجنة المنطقية الموضوع واقترحت تشكيل لجانٍ إنتاجية، من قبل التنظيم النقابي، وقد وافق مكتب النقابة على المقترح الذي قدمه له الرفيق عبد السلام جالا بهذا الشأن، ثم وافق عليه السيد مدير عام المؤسسة الذي رأى تسمية تلك اللجان الجديدة بلجان حماية الإنتاج، بحيث يرأس كل مدير لتجمعٍ عمالي اللجنة في تجمعه، يعاونه اثنان من إدارته واثنان من العمال يسميهم مكتب النقابة. وهذا ما تمّ فعلاً، وقد عُنيت تلك اللجان بتنفيذ مهام ذات طبيعة نقابية ومطلبية وإنتاجية. وقد مثّلتُ العمال في لجنة مديرية النقل.

كان تأمين رغيف الخبز للعاملين أحد الهموم التي تابعتها اللجنة المنطقية واللجان النقابية، خصوصاً خلال فترة حرب تشرين (1973). احتاجت الطبقة إلى 17 طناً من الدقيق، يومياً، تقوم بخبزها ثلاثة أفران رئيسية تابعة للدولة، إلى جانب بعض الأفران الصغيرة الخاصة. كان من واجب النقابة التدخل لمعالجة أي خلل يصيب أحد الأفران، وقامت بتسيير دوريات ليلية من لجان حماية الإنتاج لمراقبة عدم تهريب أي كمية من الدقيق، وفي الواقع فقد تولى البعثيون والشيوعيون إدارة الأفران، وفي إحدى المرّات كان الرفيق المرحوم ميشيل يعقوب والرفيق محمد عبدالله مسؤولين عن فرن الحي الأول، إدارةً وبيعاً.

في الذكرى الخامسة والعشرين لميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي تمّ ترشيحي من قبل التنظيم النقابي للعاملين في سد الفرات لبطولة الإنتاج على مستوى الجمهورية، فذهبت إلى دمشق، وكنت واحداً من أصل 38 عاملاً من مختلف المحافظات، وقد وُزعت علينا شهادات بطولة الإنتاج في احتفالٍ كبيرٍ جداً، وقد دعانا السيد الرئيس حافظ الأسد لتناول طعام الغداء معه في مدينة بلودان.

أقول للحقيقة إن شهادة بطولة الإنتاج التي حصلت عليها استحقها الكثير ممن عملوا في بناء سد الفرات من عمال ومهندسين ومديري.

إني أعدُّ هذا الشهادة وساماً على صدر منظمة الحزب الشيوعي في الطبقة وجميع رفاقي العمال.

+++

مع اقتراب العمل في بناء السد من نهايته، ظهر احتمال لتسريح العاملين فيه، مع استبقاء من سيشغّلون المحطة الكهرمائية فقط. لكن جهود المخلصين من جميع الأحزاب وبخاصة من حزبنا الشيوعي وحزب البعث ساهمت في إقناع الحكومة والهيئة العليا لسد الفرات بضرورة تحويل العاملين إلى مشاريع استصلاح الأراضي وإلى بناء محطة ضخ المياه (البابيري). وقد تمّ ذلك فعلاً، وأول مرحلة لاحقة لبناء السد كانت المباشرة في تنفيذ استصلاح سهول مسكنة غرب.

استوجب الأمر تشكيل مكتب نقابي جديد لعمال الاستصلاح، وقد مثّلتُ الحزب في اللجنة النقابية التي تشكلت في موقع عملي. قامت اللجنة مقام مكتب النقابة وذلك لكثرة التجمعات العمالية والمهن. كانت مساهمتي في عمل اللجنة ملحوظةً بسبب خبرتي النقابية ومعرفتي المتواضعة في الأنظمة والقوانين. وإذ تضايق بعض زملائي، أحياناً، من طول مداخلاتي في اجتماعات اللجنة، فإن رئيس النقابة (كنيته: غنوم) كان يقول لهم: دعوه يتكلم، فجبهات العمل عندهم واسعة جداً ويعجز عن أدائها مكتب نقابي كامل.

أذكر حادثة تؤكد التضامن العمالي الذي عرفته مواقع العمل في السد وفي الاستصلاح، ففي إحدى المرّات سقط أحد العمال وكان سائق بلدوزر، على الأرض، فجأةً. في مساء ذلك اليوم ذكر الرفيق عبد السلام جالا، في اجتماع اللجنة المنطقية، أن العامل جاره في السكن وأنه توفي.

عندما ذهبنا إلى مدينته (جرابلس) لتقديم واجب العزاء، تبيّن لنا أنه ليس لدى العامل المتوفي أي قريب، سوى أخ يقطن في حلب. ما زلت أذكر كيف استقبل العاملون والجيران مبادرة النقابة والشركة التي تبناها رفاقنا الشيوعيون والبعثيون لحماية أسرة العامل من التشرد، فعند عودتنا، خرجت من بين النسوة امرأة قالت لجيران المتوفى، بصوتٍ عالٍ: أهل الخير عملوا ما لديهم. سوف تحتفظ الأسرة بالبيت المخصص لأسرة المرحوم وستعمل ابنته بدلاً منه.

كانت تلك المرأة رفيقتنا أم صالح، زوجة عبد السلام جالا.

***

تلك كانت شذرات موجزة جداَ من حياتي الحزبية والنقابية والاجتماعية، وددت تدوينها قبل أن يلفّها النسيان. إنني أعترف بدور كل من تعاون معي لصياغة إسهاماتي المتواضعة في العمل الحزبي والنقابي اللذين أعتز بهما.

أقول، ختاماً، إن الفضل في كل ما قمت به، في حياتي، يعود لوجودي في الحزب الشيوعي ولأسرتي ولرفاقي الذين ساندوني، دوماً، وتحملوا معي ما تحملته. شكراً لهم جميعاً!

بقلم: عبد الجليل جرجنازي

حلب، تشرين الأول 2010

العدد 1107 - 22/5/2024