مأثرة صانع الأحلام السعيدة

كثيراً ما نفاجئ أنفسنا في أحضان ذكريات بعيدة، تقذفنا نحو طفولة السنوات السبع الأولى، فنتعرف على هواجسنا المبهمة الأعمق؛ مخاوفنا وقد ارتدت عبر انكسارات الأزمنة بحثاً عن أجوبة تتلبس يقين الطمأنينة، المتكئة على نضج مقترن بتراكم التفاسير وتقليب الاحتمالات.. ذكريات قُدر لها أن تبقى حبيسة مدفونة بانتظار لحظة المواجهة الحاسمة، حين تتجمع شذرات المشاعر والانفعالات، فتسد الثغرات وتلحم الشروخ، لتكتمل صورة التجربة وينتظم إيقاعها.. وكمون الانتظار قد يستغرق الحياة بأسرها، فيتزاحم مع استقطاب الحاضر مكثفاً الصورة ومضاعفاً عبء الإسفار عن المكنون.. وهو ما حصل مع بطلة فيلم SAVING MR BANKS الآنسة باميلا ترافيس، الكاتبة المشهورة التي واصلت تأجيل مواجهة الذات، حتى أجبرتها الحياة بقسوة صادمة على التصالح مع ماضيها..

تعود الأحداث إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي، حين بدأ والت ديزني Tom Hanks مفاوضاته مع باميلا Emma Thompson لتوقيع عقد لإخراج فيلم مقتبس عن روايتها ماري بوبنز. وخلال المفاوضات الصعبة بين المرأة المتصلبة والرجل المستغرق في أصداء إمبراطوريته الناجحة، نتعرف على الخامة الصرفة التي جبلت منها الروايات، والألم المتواري الذي صنع أسطورة النجاح.

يقود المخرج John Lee Hancock فيلمه ببراعة وسط أجواء طفولية ساحرة، تذكي البراءة المفقودة خلال الأزمنة المنصهرة في مادية الأشكال. فيعيدنا إلى زمن يفترض فيه انسجام الإنسان مع نفسه ومحيطه، لانعدام مقومات الاتصال الاجتماعي، التي تعمم ألوان الرفاهية، وتشحذ سياط ملاحقتها. وباميلا حين تحاصر بالإفلاس المادي الذي يهدد بخسارة عالمها المألوف، تتقهقر بذكرياتها نحو بدايات القرن الماضي، حين كانت طفلة حالمة تصغي لأوهام والدها السكير عن عالم خيالي مرح. هذا العالم الذي تحطم على صخرة الواقع، بعد عجز الرجل الكسول المتبطل، وموته تاركاً زوجة وثلاث فتيات، وإرثاً من الذكريات المؤلمة المتداخلة مع حكايات التخدير المؤجل لفاجعة الفقر والحرمان.

تقوم المفارقة الدرامية على تصلب المرأة الستينية العانس، وتعنتها إزاء أي اقتراح بتطوير شخصية بطلتها ماري، للتماهي مع الذائقة السينمائية والرؤية الإبداعية للمنتج. مما يعطي انطباعاً بممانعة الداخل لأي تغيير مهما كان صغيراً، وبالتالي العجز عن قبول اختلاف الآخر خوفاً من تصدع القوقعة المغلفة للذات. وخلال يأس المفاوضات تكتشف باميلا أبعاداً منسية في ذاكرتها، تتصل بمعاناة والدتها الصامتة ازاء لامبالاة زوج تنصّل من مسؤوليته كرب أسرة. وهنا تتبلور عقدة الأزمة في شخصية الكاتبة، والفجوة القائمة بين الوفاء لذكرى والدها المحب، وعالمه الخيالي الجميل، والمعاناة الناجمة عن إعدام الملكات العاطفية الاجتماعية. فيكون اتصالها مع الآخرين في ورشة ديزني للاتفاق على خطوط التعديل، مدخلاً لتلمّس القهر  وعواقب العزلة المدمرة. وتقدم رحلتها وتجوالها مع ديزني في عالمه الرحب فرصة لاستعادة فرح الطفولة وسعادتها النقية.

بدت رحلة ديزني لإقناع باميلا متعسرة جداً، وأثار تسامح الرجل وتواضعه أمام الكاتبة التي انتزعت إعجاب ابنته، دهشة موظفيه وتقديرهم. فالصبر الكبير والاستيعاب الذي امتص به نزق المرأة العنيدة، انتزع من قلبها شرارة التعاطف المغيب، وأفسح مكاناً لقبول التغيير في نمط التفكير وأسلوب الحياة. وبالتالي نجح صانع البهجة في ضم الكاتبة إلى عائلته المرحة الواسعة.

ربما كان الجوهر الجميل في هذا الفيلم الحديث هو استعادة مقولة المخرج الياباني المبدع هايو ميزاكي في فيلمه الرائع (الأميرة منوموكي) حين قال على لسان أميره: لكي نتحرر يجب أن ننظر إلى الماضي بعينين لا يغشاهما الكره. فالكراهية المبطنة هي عدو الإنسان الأخطر، إذ تهدد دوماً بإطلاق سراح الذكريات السيئة، لتظلل المساحات المضيئة وتحجز الضحية في متاهات الظلمة والتخبط. لذا كانت مغامرة باميلا مع ديزني أشبه بالاعترافات السرية أمام الكاهن لمنح الغفران وللتسامح مع الأوقات العصيبة، التي أغنت الخيال وأذكت الموهبة، وفي الوقت نفسه دمرت الثقة بالآخر، حين ألبسته خذلان الأب؛ الخذلان المموه بالخيال الرائع!

العدد 1104 - 24/4/2024