من الصحافة العربية العدد 627

السوريون في مرآة الأزمة

لعل الآثار المدمرة وحجم التخريب الذي طال البنية التحتية في سورية، إضافة إلى عدد الضحايا المجندلين الضخم فيما اصطلح على تسميته (الربيع العربي)، تكاد تكون على كارثيتها وعبثها غير المنطقي قابلة للتجاوز والنسيان بطبيعة الحياة ذاتها، وما يكتنفها من تجدد وطي الصفحات القديمة وسعي لانطلاقات جديدة.

تساعد في ذلك ذاكرة مثقوبة لنا نحن المشرقيين لا تحتفظ إلا في زواياها المظلمة بالأحقاد الدفينة والعذابات القاسية. إن اجترار الأحقاد وإعادة قذفها في مستقبل أيامنا وقابل أيام أولادنا سيظل تحدي هذا الشعب، بعد مصالحاتنا الواجبة المستعجلة، وعبرها فقط سيثبت السوريون جدارتهم بالهالة التاريخية المضيئة التي لطالما أحاطت بهم.

إن ما يدعى (القوة الناعمة) للسوريين، سواء أكانوا في داخل ديارهم أم خارجها، والقيمة الاجتماعية الاعتبارية للشخصية السورية، قد ساهمت فيها عوامل مختلفة متنوعة تتباين في مرجعيتها للتاريخ العريق الزاخر. إن الطبيعة الشخصية للسوري قد تتفرّد حسب الميزات البشرية الذاتية مثل كل الشعوب، بيد أن الميزات الجامعة التي وسمت شخصية السوريين قد استمدتها الأجيال المعاصرة بشكل شبه مؤكد من انعكاسات صدى العقود القليلة المنصرمة. فكانت (السياسة المعاكسة) للسياسات الرائجة في المنطقة والمقبلة بالأهواء الغربية من صوب الجزيرة العربية أو من مصر أو من العراق أحياناً أخرى تترك ملامح واضحة جلية على عين الخبير المتفحص.

حوصرت سورية في الثمانينيات إثر رفضها اتفاقية كامب ديفيد، وإثر مواقفها من حوادث تلك الحقبة خصوصاً الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980-1988)، فجاء العقاب ورد الحساب في لبنان، وفي حوادث حركة الإخوان وحربهم لاستلام السلطة، وأحيطت سورية بحدود تتألف من سياج متراص من الخصوم الأعداء.

وقفت جموع السوريين في طوابير الانتظار على المواد الأساسية، فأصبح الصبر والعناد الأساس الصلب المتين الذي تبنى عليه باقي المكونات في الشخصية السورية.

انتظر السوريون بعض الوقت ليروا أنهم مستوحَدون في هذا العالم وليحصلوا على نتائج ناجحة من سياساتهم (المعاكسة)، فانتشوا بتعافي لبنان وفشل تفتيته ووضعه تحت الوصاية الصهيونية، وما استتبعه من نتائج أخرى (مقاومة وتحرير وردع). وظهر عبث الحرب الإيرانية ـ العراقية حتى لداعميها أنفسهم قبل أن ينقلبوا فيما بعد على حامي بوابتهم الشرقية. اكتوى السوريون بتجارب مريرة على الضمير الجمعي السوري قبل أن يكمل افتخاره الوطني والقومي، ويصل إلى خلاصة العقلاء: (ما حك جلدك مثل ظفرك).

تتابعت الحوادث وتراكمت المكاسب القيمية الاعتبارية للشخصية السورية عبر دعمها لمقاومات المنطقة في لبنان وفلسطين، قبل وأثناء وبعد وقوفها منفردة في هذا العالم المفتوح في وجه السطو الأمريكي على العراق وفي دعم كل مقاومة له. مع تناسي السوريين أحقاد الماضي وإعادة نسج علاقات متوازنة مع العراق عندما وقع في محنته، تشكل نسق فكري ووجداني يرضي سواد جموع السوريين ويلبي رغبتهم الإنسانية، وكأنهم يكفرون عن أخطاء السياسيين التاريخية في البلدين عندما فشلوا (وهم القوميون المنحدرون من حزب واحد ومنبع إيديولوجي واحد) في تحقيق أي نسبة من التعاون المشترك في خطأ تاريخي تدفع المنطقة كلها آثاره حتى الوقت الراهن. أصبحت دمشق السند الحقيقي لكل مقاومات المنطقة فيما سمي (دولة المقاومة والممانعة).

الاعتداد بالنفس والاعتماد عليها والثقة بالخيارات الذاتية والاعتزاز الوطني مجبولة بعناد مميز، عُدّت الخصائص الواسمة للسوريين، قد لا تروق لبعض شعوب المنطقة لكنها كانت كفيلة بفرض الاحترام لهم. يذكر السوريون أن الزمن مر عليهم بسنوات كانوا فيها غير مرغوب بهم، وبات الجواز السوري عقبة مرور في معظم معابر العالم. لكنهم وفي كل مكان حلوا به كانوا منارة للتميّز والنجاح.

لم يمنع ذلك من وصف السوريين بـ(مفتعلي مشاكل) حين يُصطدم بالعناد السوري الجليل، وعندما يُتوقع منهم المساومة والتنازل.

أضافت الدراما السورية في العقد الأخير جوانب أخرى بعضها حقيقي وبعضها مختلق، فتضخمت الهالة المنيرة للسوريين، وترسخت القوة الناعمة لهم لتصبح الشخصية السورية من أكثر شخصيات العرب جاذبية، وعبر لهجة الفنانين السوريين أنفسهم عبرت الأجندة التركية للمنطقة. وغدت النساء السوريات الأكثر سحراً ويتربعن على سلم النساء العربيات من حيث الذكاء والجمال. تكسرت خلال السنوات الثلاث المواكبة (للربيع العربي) هذه الصورة النمطية وانشرخت بندوب غائرة قبيحة في الوجه وبجانب كرتي العينين ومحيط الفم وغمازتي الخدين، وغارت أعمق الندبات بعيداً هناك بجانب تامور القلب وشرايينه. وأصبح من المتعذر على أمهر الجراحين إخفاء ما اعترى الشخصية السورية الاعتبارية القيمية الجامعة من مآس وكوارث. ما نفعت السوريين قراءةُ الشعوب المجاورة، وأصروا على اجتراع آلامهم ذاتها بدرس يكرر في المنطقة المرة تلو الأخرى. ما سمعوا نصائح الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين وهم بين ظهرانيهم، وانسدلت بينهم وبين مظاهر (ديمقراطية) الرجل الأبيض، وغيبت العقول وسيطرت الأحقاد وتضافرت عوامل الخارج مع نقاط ضعف داخلية ليكون للسوريين درسهم الخاص، درس آخر مكرر في الفوضى والتخريب. لن تشفع الشعارات الكبيرة مثل القضاء على الاستبداد والدكتاتورية وتحقيق تداول السلطة، لتبرير التدهور الكارثي الدراماتيكي الحاد الذي أصاب الأرض السورية بما فيها ومن عليها. فتخربت معظم البنية الأساسية من مكتسبات للدولة السورية العميقة ولسواد شعبها من الطبقة الوسطى.

لكن الآثار الغائرة التي ستترك أخاديدها المؤلمة في الشخصية السورية ستعود في معظمها لسيل الصدمات النفسية والاجتماعية المتراكم الرهيب والمتشكل من تحوّل ملايين السوريين إلى قوافل لا تنتهي من اللاجئين والنازحين. وما استتبع ذلك من قصص ذل ومهانة وظلم اجتماعي لثورة خرجت تحت شعار (الشعب السوري لا يذل) فتحطمت الصورة الوردية لحياة السوريين وتحولت سورية من أكبر مضافة للنازحين واللاجئين العرب إلى أكبر مصدّر لسكان الخيم في العصر الحديث.

امتلأت سهرات العالم بمشاهد السوريين المعذبين والمذلين في الحصول على أبسط الخدمات أمام الظروف العاتية وأمام آلة قمع النظام الرهيبة، كما تصور على الدوام. واكتملت صورة المهانة والقهر بمئات القاصرات في الخيم اللواتي لم يجدن إلا البغاء المقنّع على شكل عقود زواج موقتة من بعض الميسورين العرب (المجاهدين)، أو عبر مناظر السبي لبعض النساء في غزوات حرب الثورة الدائرة.

ما زلت أعتقد أنه فكر شيطاني قذر ذلك الذي دخل حرم البلاد العربية الشامخة في العراق وبلاد الشام، فاغتصب الرجال في أبو غريب واستباح أعراض الشام بيد الرعاع الجهلة.

لتتنكس الرؤوس الشامخة ولتتهدل الشوارب المشرئبة في صفحات وجوه رجال العروبة وليغرقوا في ذل أبدي لا يغادرهم في زمن قريب، ولن تكفي كل الانتصارات -إن حدثت على ندرتها – لانتشالهم من مستنقعاتهم الشخصية الآسنة.

عبدالمعين زريق

 كاتب سوري

(الأخبار) 13/5/2014

 

أمريكا للجربا: الانتصار على الجيش السوري ممنوع

لم يفلح رئيس الائتلاف السوري المعارض أحمد الجربا في إحداث تغيير جذري في الموقف الأمريكي. لا تزال واشنطن ترفض تسليم أسلحة مضادة للطائرات. كل ما يمكن انتظاره هو رفع الحظر عن فتح بعض المخازن في السعودية وتركيا لزيادة عدد صواريخ (تاو) المضادة للدبابات وأسلحة متوسطة أخرى. هذا الرفع يبقى، هو الآخر، مشروطاً بإشراف أمريكي مباشر، خشية وقوع الأسلحة في أيدي مسلحين إرهابيين.

كل ما بقي، أي رفع مستوى التمثيل المعارض في واشنطن ولندن وغيرهما، لا يعدو كونه محاولة لرفع معنويات (الائتلاف). بات رفع المعنويات ضرورياً بعد تقدم الجيش السوري وحليفه حزب الله في مواقع استراتيجية، والاتجاه نحو السيطرة على كل المدن الكبرى.

ماذا يعني هذا؟

الجواب كان واضحاً في واشنطن. الجربا نفسه سمعه في لقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين. المؤسسة العسكرية الأمريكية لم تعد راغبة في انتصار للمسلحين على الجيش السوري. صار هذا الجيش، كما نظراؤه في العراق ومصر ولبنان والأردن واليمن وغيرها، حاجة ملحّة في جبهة مكافحة الإرهاب.

لم تستطع معارضة الخارج إقناع الإدارة الأمريكية، وخصوصاً العسكرية منها، بقدرتها على هزيمة الإرهابيين. صار مقاتلو (داعش) و(النصرة) القوة الأهم في المعارك الكبرى. إحداث تغيير على الأرض يتطلب، في الدرجة الأولى، إجراءات إقليمية ودولية، خصوصاً ضد النصرة. سيظهر ذلك قريباً جداً.

كل ما ستسمح به واشنطن، إذاً، هو رفع مستوى المساعدة للمسلحين (المعتدلين) بغية إحداث نوع من التوازن العسكري. الهدف من توازن كهذا هو التمهيد لمفاوضات مقبلة بين النظام والائتلاف وأطراف معارضة أخرى. بمعنى آخر الضغط على إدارة الرئيس بشار الأسد للعودة إلى طاولة التفاوض.

يعترف الغربيون بأن الجيش السوري وحلفاءه قلبوا جزءاً كبيراً من المعادلة على الأرض. يقولون، في المقابل، إن المسلحين لا يزالون قادرين على إحداث تغييرات في مناطق محدّدة، وخصوصاً في مناطق الشمال. انهيار المسلحين في المناطق الشمالية ممنوع هو الآخر. أمر كهذا سيكون خطيراً على كل صورة المعارضة وعلى الأدوار الإقليمية، وخصوصاً التركي منها. لذلك لا بد من تقديم مساعدات.

يخشى داعمو المعارضة، وفق ما ظهر في واشنطن وفي مداولات اجتماع أصدقاء سورية في لندن أمس، قلب الصورة معنوياً. لا يتعلق الأمر فقط بالتقدم العسكري للجيش السوري وحلفائه. يتعلق، أيضاً، بصور الناس العائدين إلى المناطق التي يخرج منها المسلحون نتيجة المصالحات. يتعلق كذلك باحتمال إجراء الانتخابات الرئاسية في معظم المدن الكبرى.

لا بد، إذاً، من إبقاء المعادلة العسكرية في حدود معينة بحيث يصعب الحسم لأي طرف. لا بد أيضاً من تشويه صورة الانتخابات والرئاسة. هذا سيتكثف في الأيام القليلة المقبلة. هنا يكمن خصوصاً السعي الحثيث من قبل فرنسا وبعض الدول لتقديم مشروعين إلى مجلس الأمن الأسبوع المقبل؛ يتمحور الأول حول مشروع للمحكمة الجنائية الدولية، والثاني في شأن إقامة ممرات للمساعدات الإنسانية. تعتقد الدول الغربية بأن موسكو سترفض الأول وتلجأ إلى الفيتو، أما الثاني فقد تضطر إلى تمريره خصوصاً بعد تقليص الممرات إلى اثنين فقط. يعتقدون بأن الرئيس فلاديمير بوتين قد يقبل لسببين: أولهما لأن الممرين مقبولان عملياً، وثانياً لأنه يريد تحسين صورته الدولية بعد أوكرانيا.

في الحالتين سيكون المشروعان مهمين لجهة قياس حقيقة ومستوى الدعم الروسي الحالي للرئيس الأسد. يقال إن ضغوطاً مورست على موسكو أخيراً لإقناع الأسد بعدم الترشح. يقال، أيضاً، إن طلباً قدم إلى إيران على هامش المفاوضات النووية معها لإقناع الأسد بذلك. كان الجواب في دمشق واحداً: (الأسد سيترشح في المهلة الدستورية المعروفة، ولا إمكانية أبداً لتأجيل الانتخابات يوماً واحداً).

ثمة من يقول إن بعض الأفكار التي نوقشت مع طهران تتعلق باقتراح جديد مفاده: وقف لإطلاق النار، إيصال المساعدات الإنسانية وتبادل الأسرى والمخطوفين، إرجاء الانتخابات على أن يصار إلى تعديل الدستور وإجراء الانتخابات لاحقاً، ثم تعزيز صلاحيات الحكومة المقبلة.

يبدو أن الصورة في دمشق مغايرة تماماً. القيادة السورية تقول إن ما كان مقبولاً قبل وصول الحرب إلى مآلاتها الحالية ما عاد مقبولاً الآن. ثمة شعور بأن (الحسم الاستراتيجي تحقق ويبقى استكمال الحسم على الأرض). أقصى ما يمكن أن تقبله القيادة بعد عودة الأسد إلى ولاية ثالثة هو حكومة تضم (بعض أطياف) المعارضة المقبولة. خصومها يعملون أيضاً لإعادة تعويم المعارضة السياسية ورفع معنوياتها. قطر نفسها تعمل على خط مواز عبر اجتماعات جانبية للتأسيس لخيارات معارضة أخرى.

بين معارضة مقبولة وأخرى معتدلة، يبدو أن الحرب ليست قريبة الانتهاء. الذي تغير هو حاجة الجميع حالياً إلى أن يحقق الجيش تقدماً على الإرهاب حتى ولو تغيرت كل الأهداف السياسية التي كانت مرفوعة منذ 3 سنوات بإسقاط الأسد ونظامه. كانت النتيجة أن الحرب المستعرة الآن بين (داعش) و(النصرة) قد قتلت ما لا يقل عن 10 آلاف شخص وفق مصادر عسكرية مطلعة. لا شك في أن النظام صار أقوى وفق اعترافات الغربيين أنفسهم.

ما الذي سيتغير لو تقاربت طهران والسعودية؟ لا بد أن ذلك أمر مهم من العراق إلى سورية واليمن وصولاً إلى رئاسة لبنان. لكن المسار لا يزال في بدايته والتعثر محتمل.. الأهم وفق القيادة السورية الآن هو استكمال الحسم في المناطق الاستراتيجية.

سامي كليب

(الأخبار)، 16/5/2014

العدد 1105 - 01/5/2024