إدارة الحياة وفق المناورات الصحيحة

في عالم الشوارع والأزقة الخلفية، تدور حياة مثقلة بالظلم والقهر، تتنفس كل لحظة أعباء وجود مترنح، مقيد بالانحرافات والتشوهات، يحجب الرؤية ويعتم آفاقها. فتدور الأجساد حول طاحونة الشر، لتفرخ المزيد من الكائنات المستنزفة إنسانياً، وتعمق النكهة السوداء لسقوط الملاك في التجربة. ويتبقى للأمل خيار المراوحة بين عظمة النهوض من القاع، والاستغراق كلياً في صخب المادة وصولاً إلى اليباب الأقصى..  ولكن روعة الاقتراب من اشتعال الأرواح الحزينة بأمل الخروج من تخبطها، تتخطى دوماً سدود القناعات الثابتة، لتخطّ حكايات نبيلة يعرّفنا على إحداها المخرج الأمريكي (JAKE GOLDBERGER) في فيلمه (LIFE OF A KING).

يدشّن الفيلم بمشهد يمثل رقعة شطرنج موضوعة خارج زنزانتين متجاورتين، بينما حجارة اللعب مصفوفة على قضبان الحديد، وأيدي اللاعبين تتحرك عبر القضبان على وقع النقلات.. والسجن قد يكون أي فضاء ضيق يحاصر الإنسان بالضيق والعجز، ما يدفع التعلم نحو إمكانية اجتراح المعجزة.. والخطوة التالية تضعنا في قلب امتحان المعلم/المريد، واللحظة الأصعب هي إطلاق سبيل الطالب ليخوض معركته الخاصة بإحداثيات جديدة مكتسبة. وعندئذ ستتمثل النصيحة الأجلّ من المعلم، بتجاوز الخوف من عدائية المحيط، والتمسك حتى النهاية، بقواعد اللعبة، التي تتركز أساساً على حماية الملك، الذي يمثل فعلياً خميرة الحياة وذخيرة المستقبل. لذلك يهدي المعلم وهو سجين محكوم بالمؤبد، رفيقه يوجين، مجسماً خشبياً لملك الشطرنج، ويطلب منه التركيز على إنهاء اللعبة، لأن باقي الأمور ستقع في مكانها الصحيح تلقائياً.

تدور الأحداث كلها في أحياء السود، المنسيين من الحكومة الأمريكية، والمتروكين لعالم الجريمة والعنف والانحلال الأخلاقي المريع. مما يجعل إعادة تأهيل يوجين في السجن من قبل زنجي مثله، عملية ذاتية للخلاص من قاع الجحيم. فيوجين يخرج لأجل من تبقى، كمخلّص يحمل رسالة المقيدين بذنوبهم إلى اليافعين المتأهبين للانحراف. وتعود به الخطا إلى مواجهة تبعات إهماله لطفليه أثناء انشغاله بالسرقة، فينشأ ابنه ماركو في الشوارع وينتهي إلى السجن مثل والده. والمفارقة أنه يجد نفسه في صف اعتقال تابع لإحدى المدارس الحكومية، وسط فتية جانحين، يتحدّونه ويستهزؤون به. وهنا تبدأ رحلة الاقتراب من النفوس الغضة التي لفظتها الحياة الآمنة، وقذفتها إلى صقيع التشرد والخوف، وتكون الوسيلة الوحيدة للتغلب على ممانعة المراهقين هي رقعة الشطرنج. فهي منطقة محايدة تتيح ليوجين إنجاز المناورات الصحيحة دون اللجوء إلى التنظير ووقعه الثقيل. وخاصة عند إبراز الملك الخشبي وإدارة الحوار معهم على أساس تعليم مهارات اللعب، كسباً لثقتهم واحتراماً لذكائهم. فالملك هو الحياة، وبالتالي كل المعارك تدور لحمايته..

يطرد يوجين من عمله (بوّاب في المدرسة)، إثر وشاية من ملك المخدرات، فيؤسس نادياً شعبياً للشطرنج في منارة مهجورة. ولكن الملك لا يتركه، فهو يستقطب الفتية ويشغلهم عن تعاطي المخدرات. وينشأ صراع خفي بين الرجلين، اللذين كانا شريكين سابقين في السطو المسلح. وهذا الصراع غير المتكافئ، يسهّل المصالحة بين يوجين وولديه، ويفعّل ثقة الفتية في مشروعهم لاكتساب المهارات اللازمة لتفعيل حياتهم. فيتخلى تاهيم عن التخبط في الشوارع، ويبزّ أقرانه في لعبة الشطرنج ليصل إلى مستوى المنافسة المحلية، أما ابنته كاترينا فتشعر بالفخر لإنجاز والدها، بينما يسقط بينات، الفتى المرح، شهيد النزاع بين طرفي الصراع. أما كليف، الولد الشرير المتزعم للفتية، فيُقبض عليه ويلقى في السجن ويتخلى عنه ملكه.. ويكون يوجين قد نجح في تحدي الحصار، وبث الإلهام الذي هو أساس كل معجزة..

وقبل المباراة النهائية، يأخذ يوجين تاهيم إلى السجن للقاء معلم الشطرنج الذي يسميه العائلة، وهناك يحاول الكهل تعليم الشاب الخطوة الأساسية للتغلب على خصمه الأبيض، فيرفض تاهيم بلطف، معتبراً إياها معركته الخاصة. وهي فكرة الفيلم عن تجاوز الخوف من الفشل، وتدريب الذات على الثقة والتقدير، التي تدعم كل مسيرة حياتية، بغض النظر عن امتلاك الموهبة أو مهارة التعليم.

العدد 1104 - 24/4/2024