سياسة التحطيم والاقتلاع

لم يكن تهديم مئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب، العمل التخريبي الأول للسلفيين- التكفيريين. ولم يكن الصراع بين التكفيري والتنويري حديث العهد، بل مضى على بدايته قرون عدة.. وقدمت الشعوب ألوف الضحايا للحفاظ على حضارتها وتاريخها.

ومن أبرز سياسة التحطيم والاقتلاع تهديم الجامع الأموي في حلب، الذي شيّد سنة 716 م.  ولم تكن الحادثة الأولى، بل نفذها إمبراطور الروم نقفور فوكاس سنة 962 م. كما تعرَّض للتخريب على أيدي التتار بأمر من هولاكو عند اجتياح حلب سنة 1260 م.

هناك تواصل في المجابهة والمواجهة لم ينقطع بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث. وإن خمد هذا الصراع أحياناً، وسكن كالبركان الذي يتجدد فإنه يعود بحقد أشد، وتحت شعارات مزيفة وغير إنسانية وحضارية. وإن دلت على شيء فهي تدل على العقم في الفكر والتفكير وقصر في الرؤية والرؤيا وعدمية نكراء. وما جرى من قصف مآذن الجامعين (الأموي في حلب والعمري في درعا) يبين ذلك. وما جرى من تخريب وحرق وسرقة للكنائس والأديرة، يثبت بالدليل القاطع همجية (الغزاة) القادمين من تسع وعشرين دولة غربية وإسلامية.

لقد دمّرت(طالبان) قبل سنوات التماثيل البوذية في (باميان) وسط أفغانستان. وإن هدم تمثالَيْ بوذا العملاقين هو عمل همجي. ولم يقتصر الهدم على هذين التمثالين، بل حُطمت التماثيل الصغيرة والمتوسطة، المصنوعة من الفخار والخشب. وهناك دعوات سلفية بتحطيم تمثال أبو الهول والأهرامات بمصر. ويعتقد هؤلاء السلفيون (أن السجود لهذه التماثيل الوثنية هي لجوء لآلهة أخرى غير الله).

وجرت أعمال تخريب همجية كثيرة أثناء الأحداث وسرقة وتحطيم للآثار وتماثيل المفكرين والأدباء في سورية ومصر والصومال وليبيا. ومن أبرزها، تحطيم تمثال أبي العلاء المعري.. وسرقة رأس عميد الأدب العربي طه حسين.. ووضع النقاب على الوجه السافر لتمثال أم كلثوم في مسقط رأسها.

وأزالت القوى الإسلامية الأصولية العديد من التماثيل، لزعماء لبنانيين ومصريين ووضعت مكانها صوراً ومجسمات بديلة.. ففي طرابلس (لبنان) مثلاً وضعت عبارة (الله) في ساحة عبد الحميد كرامي بدلاً من صورته. واستبدل بتمثال جمال عبد الناصر في (برج البراجنة) صور شهداء. ووضع في مدخل بعلبك مجسّم للقدس بدلاً من تمثال جمال عبد الناصر.

وما جرى في الصومال أيضاً يندى له جبين البشرية.. وتكشف ما قام به تنظيم الشباب السلفي، من قلع أسنان الذهب بالأدوات الحادة الصدئة عن الهمجية التي تذكرنا بما كان يحدث في عهد الإمبراطوريات من عذاب وتعذيب. وصدق من قال: (لقد اختصت بلاد المشرق بالأنبياء وبلاد المغرب بالأولياء). ويبدو أن الأولياء أيضاً وجدوا في أرض الشام مكاناً لهم في حياتهم ومماتهم. فالمسلحون التكفيريون نبشوا منذ أيام قبر الصحابي حجر بن عدي الكندي أحد أبرز القادة المسلمين، ونقلوه إلى مكان مجهول.

نفذت الجماعات التكفيرية أعمالاً متوحشة في دول عدة. ففي مالي الإفريقية مثلاً، قامت هذه الجماعات من (أنصار الدين ومن تنظيم القاعدة) في بلاد المغرب بهدم الأضرحة الواقعة داخل المسجد الكبير في شمال مالي. ومن الآثار الدينية المدمرة: باب جامع يعود إلى القرن الخامس عشر. وستة أضرحة لأولياء مسلمين. وبلغ عدد الأضرحة المهدمة 333 ضريحاً. وكان الإسلاميون يجوبون الشوارع والأسواق كي يشرحوا للناس أن تلك المقامات هي أماكن للشرك.

وتذكرنا أحداث العراق أيام الاحتلال الأمريكي بتفجير مرقد الإمامين علي الهادي  المتوفى عام 868م، وابنه الحسن العسكري المتوفى عام 874 م. ويلقب بضريح العسكريين، أو بضريح القبة الذهبية، إذ (يبلغ اتساعها 20 متراً، ومحيطها 68 متراً.. وتغطيها  72 ألف قطعة ذهبية. ويبلغ ارتفاع كل من مئذنتي الضريح 36 متراً).

ولهذه الأعمال التخريبية المشينة دلالة ومؤشرات تبين مدى الحقد، وضيق أفق هذه الجماعات عن استيعاب منجزات الحضارة العربية الإسلامية. وتكشف عن حدّة الصراع بين الفكر المغلق الجامد، ورؤية من يرسخه في ذاكرته وعدم قابلية هؤلاء لتقبّل أي جديد، وبين الفكر المنفتح على الحياة والتطور والتجديد، والحفاظ على التراث باعتباره أحد الإنجازات الحضارية، التي تعد شاهداً على أن الحضارة العربية إنجاز هام وكبير، ليس للعرب فقط بل للبشرية جمعاء.

العدد 1105 - 01/5/2024