ليلة سقوط الموصل

مدينة الموصل هي مركز محافظة نينوى، وثاني أكبر مدينة في العراق من حيث عدد السكان بعد بغداد، إذ يبلغ تعدادها السكاني نحو1.8مليون نسمة، أغلبيتهم من العرب الذين ينحدرون من خمس قبائل رئيسية وهي: شمّر والجبور والدليم وطيء والبقارة، ويوجد أيضاً مسيحيون ينتمون إلى طوائف عدة، وأقليات قومية كردية وتركمانية.

هذه المدينة تصدّرت عناوين الأخبار الرئيسية في الأسبوع المنصرم نتيجة سقوطها بصورة مفاجئة في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) يوم الثلاثاء 10 حزيران 2014. وما حصل ذلك اليوم ليس انهياراً عسكرياً للقوات المدافعة عن المدينة فحسب، بل مؤشر حقيقي على فشل الدولة العراقية في توفير الأمن والأمان وتقديم الخدمات للمواطنين، وتقاعسها عن حماية الشعب ومقدرات الدولة وثرواتها الطبيعية. هذا الانهيار جعل جميع المراقبين يتساءلون: كيف ولماذا سقطت الموصل؟

يُجمع معظم المحللين السياسيين والعسكريين على حد سواء، على حدوث انهيار في وحدات الجيش العراقي المدافعة عن مدينة الموصل، فقد تخلى آلاف الجنود والضباط عن أسلحتهم وعتادهم وحتى زيّهم العسكري، لمجرد انتشار الشائعات بأن مقاتلي (داعش) يقتربون من المدينة، وكان ذلك مُدهشاً لكنه لم يكن مفاجئاً.

فمعظم وحدات الجيش العراقي الذي يناهز تعداده (مع قوى الأمن الأخرى) نحو مليون عسكري والذي أنفق الأميركيون زهاء 15 مليار دولار على بنائه وتدريبه، هو أقرب إلى الميليشيا منه إلى الجيش النظامي. فعناصره إما من ميليشيات ذات انتماءات طائفية  تشكّلت مع بداية الغزو الأمريكي عام 2003 أو من شبان عاطلين عن العمل مهتمين فقط بالحصول على راتب ثابت ويفتقدون إلى أي انتماء وطني عراقي حقيقي. ما يعني أن ما تهتم به هذه العناصر ليس كسب المعارك بل الحصول على المغانم والمكاسب.

ومن ناحية أخرى، رأى البعض أن ما يحدث اليوم هو نتيجة لعدة عوامل، من بينها (سياسة التهميش التي انتهجها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي تجاه إحدى الطوائف العراقية على المستويين السياسي والاقتصادي. إذ إن معظم أفراد هذه الطائفة فقدوا كل شيء منذ الغزو الأمريكي للعراق. ويمثل ما يحدث في الموصل ذروة الفشل الأمريكي في تصور خلق نظام ديمقراطي تعددي في العراق، يكون مثالً يُتبع في كامل منطقة الشرق الأوسط بدلاً من الأنظمة الديكتاتورية. لكن ما عملوه لم يعمر كثيراً حتى ظهرت مطالب الأكراد في الانفصال، ودخلت المكونات الطائفية العراقية في حرب مفتوحة أججتها فتاوى غير مدروسة أطلقتها المرجعيات الدينية لكلا المذهبين المتصارعين في العراق.

هذا الوضع دفع أصحاب هذا الرأي للقول بأن التوترات المذهبية دفعت بعناصر الجيش والشرطة إلى خلع ملابسهم العسكرية وعدم الدفاع عن مواقعهم في مواجهة هجوم المسلحين، (ففي مناخ كهذا، ليس هناك رغبة لدى الجنود بالقتال، كما أن السكان لم يكونوا مرحبين بوجود الجيش)، فبعض العناصر العسكرية (كانت تشعر بأنهم بعيدة عن منازلها، وأنها تخاطر بحياتها للدفاع عن مدينة ليست شديدة التعلق بها).

ويتحدثون في المقابل، عن (تواطؤ) بين بعض الجنود والمسلحين الجهاديين المنتمين للمذهب نفسه. ويؤكدون أن هؤلاء الجنود (عقدوا اتفاقات مع المسلحين قاموا على أساسها بخلع زيهم العسكري وترك أسلحتهم، في مقابل أن يتاح لهم الهرب).

وذهب هذا التيار إلى اعتبار أن ما حدث في الموصل هو عملية انقلاب عسكري نفذتها مجموعتان:

المجموعة الأولى هي (حزب البعث – الجناح العراقي)، وكانت مهمته تشمل التخطيط وزرع شبكة من الضباط البعثيين في القيادات العسكرية الحكومية وتجهيز بضع مئات من المسلحين في المليشيات (الطريقة النقشبندية)، بعد أن تبددت تنظيمات البعث وجبهاته (المقاومة) التي كان يعلن عنها عزت الدوري، نائب الرئيس العراقي السابق صدام حسين في بياناته في السنوات الماضية.

أما المجموعة الثانية التي وفرت المسلحين المدربين جيداً فهي التنظيمات التكفيرية كـ(داعش) و(أنصار السنّة) وغيرهما، إضافة إلى قوى عشائرية طائفية يقودها شيوخ عشائر من أمثال حارث الضاري الذي بارك ما حدث من العاصمة الأردنية، وعلي حاتم، ورجال دين من أمثال رافع الرفاعي وعبد الملك السعدي اللذين طالما اعتبرا الجيش العراقي الحالي (جيش احتلال في المنطقة الغربية).

هذه الرواية عززتها وكالة الأنباء العراقية بعد أن نشرت بياناً لجهاز مكافحة الإرهاب في العراق تحدث فيه عن قيام القوى الجوية العراقية بقصف مركز لأعضاء حزب البعث في منطقة مطيبخ في تكريت وقتلت 50 إرهابياً بينهم أحمد الدوري ابن عزت الدوري وقيادات ميدانية لداعش. وأيضاً، رأى محللون أن الوضع الحالي في العراق يُمثل (نهاية حقبة تفاهم) بين القوى العظمى التي اتفقت على تقاسم مناطق النفوذ ورسم خرائط المنطقة في عشرينيات القرن الماضي فيما عُرِفَ بمعاهدة (سايكس – بيكو)، إذ يرون أن قوات (داعش) لا تخوض حرباً ضد الحكومة السورية والعراقية فقط، بل تعيد النظر في كامل النظام القائم في الشرق الأوسط منذ نحو مئة عام. وظهر رأي جدير بالتأمل يقول، إن وجود (داعش) في سورية وتمددها الأخير في العراق هو جزء من سيناريو دولي يهدف إلى حصر (داعش) والقضاء عليها في الصحراء الممتدة في البلدين، حتى لا يعود هؤلاء المقاتلون إلى الدول التي خرجوا منها، لأن أغلب المقاتلين كما تحدثت التقارير الأوربية والغربية قادمين من كندا ومن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وهذا يقلق الحكومات الغربية، لأن هؤلاء المقاتلين في حال عودتهم إلى بلدانهم سيتسببون في اضطرابات أمنية واجتماعية كبيرة، وهذا ما يُقلق الجميع. لكن السؤال: هل سيتم القضاء عليهم فعلاً أم إنهم سيستخدمون (داعش) ورقة ضغط على دول المنطقة ومحفزاً لتفجير الصراعات الطائفية في المنطقة ولتفتيتها على أسس طائفية ومذهبية.

لعل الرسالة الأكثر خطورة التي أثارتها سيطرة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على مدينة الموصل العراقية، هي أن احتمال تشكيل التنظيمات الدينية المتشددة لدويلات جديدة في إقليم الشرق الأوسط بات أمراً واقعاً، لاسيما مع تعرض الدولة العراقية ذاتها لخلل عنيف في وظائفها الأمنية والاجتماعية.

وقد لا تكون الحالة العراقية استثناء في الإقليم، بفعل خصوصيات الاحتلال الأمريكي، وما رافقه من إضعاف لمفهوم الدولة نفسها، إذ إن ثمة محفزات في البنية الجيوسياسية للشرق الأوسط تُشير إلى أن نموذج داعش- ما لم يتم مواجهته – سيكون قابلاً للتكرار في دول تُعاني من المعضلة الأمنية ذاتها، وخاصة في البلدان التي تعرضت لعواصف (الربيع العربي).

فالبيئة الرخوة في الشرق الأوسط، وخاصة بعد موجة (الربيع العربي)، تمثل المحفز لإقامة دويلات دينية متشددة، لاسيما أن تلك الدول تعاني تعثراً في مساراتها الانتقالية، ونشوء صراعات حول الهوية الوطنية فيها، وما يعظم من تلك المخاطر حجم التشابكات والروابط بين تلك الجماعات المتشددة العابرة للحدود في المنطقة.

العدد 1105 - 01/5/2024