الإعلام الجديد والبحث عن المصداقية

كانت الجرائد في عهد نهضتها مرجعاً للناس لا يستقون منها الأخبار السياسية وحسب، إنما اعتبرها الكثير مصدراً لمعلوماتهم بصفتها مرجعاً موثوقاً به، وكان يكفي أن يقول المتحدث عن أمر ما إنه قرأ عنه في إحدى الجرائد المعروفة حتى يعتبر كلامه صحيحاً غير قابل للشك.

وتطورت وسائل الاتصال ووسائل الإعلام، وتراجعت الجرائد لحساب الراديو.

هذا الاختراع (الراديو) ساهم بوصول المعلومات إلى أكبر قدر من الناس، فهو لا يحتاج إلى معرفة القراءة والكتابة، كل ما يحتاج إليه هو أذن منصتة فقط.

ساهم الراديو لا في وصول المعلومات فحسب، إنما خلق جواً من الألفة الاجتماعية اللامتناهية، فترى الناس مجتمعين في المقاهي ليستمعوا جميعهم لما يبثه. وترى أيضاً سكان الحارة الواحدة مجتمعين عند من يملك هذا الاختراع ليتشاركوا الاستماع إليه في جو من المشاركة يؤنس لياليهم في الصيف والشتاء.

وكانت المحطات الإذاعية القليلة تعمل جاهدة للحفاظ على ثقة الجماهير بها، فقد أصبحت المصدر الرئيس للتزود بالمعلومات ولا مجال للخطأ.

وجاء التلفاز، الذي تحول إلى منافس قوي للجرائد والمذياع. فلا شك أن وصول المعلومة عن طريق البصر ذو تأثير أقوى من وصولها عن طريق القراءة أو الاستماع.

ومنذ أن صار التلفاز متاحاً، شكّل مصدراً قوياً للمعلومات ووجد فيه الكثيرون بديلاً للمذياع والجرائد، وكان مصدراً للمعلومات الحكومية يبث ما تسمح به الحكومات فقط. ففي بدايات انتشاره كانت القنوات محلية فقط، وشكل تطوره اللاحق منحى جديداً في الوصول إلى الأخبار.

وحين انتشرت الأقنية الفضائية شكلت ظاهرة فريدة في الوصول إلى المعلومات، فإمكان أصحاب القنوات المختلفة بث المعلومات التي يشاؤون، بغض النظر عما إن وافقت الحكومات أم لا. وصار بإمكان أصحاب الرساميل افتتاح قناة فضائية يبثون منها ما يشاؤون من أخبار ويستقطبون المشاهدين في منافسة لا مثيل لها.

واليوم أصبح العالم فضاء مفتوحاً للمعلومات مع انتشار شبكة الإنترنت واعتماد الكثيرين عليها مرجعا قوياً ووحيداً أحياناً للحصول على الأخبار.

فإمكان الجميع دون استثناء بث المعلومات التي يختارونها عن طريق  وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعل نشر المعلومات الخاطئة أمراً سهلاً، فلا رقابة ولا رقيب على هذه المواقع. وإذا كان ذلك قد أتاح للجمهور حرية أكبر في الوصول إلى المعلومات التي يريدها بعيداً عن القيود الحكومية والاجتماعية، إلا أن الكثير من مستخدمي هذه المواقع قد أساؤوا استخدامها، وقاموا ببث الكثير من الأخبار المغلوطة، فانتشرت فوضى إلكترونية عارمة تكتظ بالشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي وأبرزها فيسبوك وتويتر من جهة، وبث الأخبار المغلوطة على المواقع الإخبارية التي تحظى بنسب مشاهدة عالية من جهة أخرى. ذلك أن نشر الشائعة لا يتطلب سوى بضع دقائق من الضغط على مفاتيح الحاسب الآلي، وهو الكفيل بنشرها في لحظات إلى ملايين البشر لتبث سمومها في أرجاء المجتمع.

وأجمع الكثيرون على أن الإعلام الجديد فقد مصداقيته، فأصبح الكثير من الناس لا يثقون بما تبثه الفضائيات أو تتداوله مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً بعد نشرها أخباراً مغلوطة ثبت عدم صحتها في وقت لاحق،  إلا أنها تعد وسائل إعلامية لا غنى عنها لملاحقة الأحداث اليومية نظراً لسرعتها في نقل الخبر.

من جانب آخر تحولت الجهات الحكومية في بعض الأحيان إلى منابر لنفي الأخبار المغلوطة المتداولة والتي تضر بسمعتها أحياناً كثيرة.

وفوق ذلك، فإن حالة الصراع السياسي باتت تدفع الخصوم السياسيين إلى التفنن في تزييف الحقائق بدقة وحرفية تامة، للنيل من سمعة الآخرين، ما يلعب دوراً واضحاً في استفزاز المنتمين لهذه الجهات السياسية وجذبهم.

وإضافة إلى ذلك، فإن الشخصيات المشهورة هي الأكثر عرضة لنشر أخبار مزيفة عنها، من خلال نشر أخبار كاذبة أو تصميم صور مفبركة لها تسيء إلى سمعتها وتثير الجدل حولها، وربما اختلاق قصص عنها لا أساس لها من الصحة.

وأخيراً فإن أخلاقيات نشر المعلومات، بعد التطور الهائل في وسائل الاتصال ولا سيما مواقع التواصل الاجتماعي بما فيها فيس بوك وتويتر، أصبحت قضية مثيرة للجدل عانت بسبب العديد من الدول عقب اندلاع ثورة التكنولوجيا والمعلومات، وحتى الآن لم ينجح المجتمع الدولي في وضع آليات لضبط منظومة النشر الإلكتروني على وجه الخصوص نظراً لأن هذه الوسيلة تخضع لظروف تختلف عن  الوسائل الأخرى، وعلى رأسها التفاعلية والقدرة علي الإرسال والاستقبال في التوقيت ذاته دون قيود، وهو ما يسمح للملايين بالتفاعل في اللحظة نفسها وتصعب إمكانية السيطرة على كل ما ينشر فيها.

العدد 1105 - 01/5/2024