«المونديال»… وكيفية التعاطي معه

تابع أكثر من مليار نسمة في مختلف أصقاع الأرض العرس الكروي العالمي (المونديال) في البرازيل، وأظهر ذلك مرة أخرى جماهيرية المونديال وشعبية كرة القدم في العالم.. في الوقت الذي بات فيه هذا التجمع الكروي العالمي يطرح العديد من الأسئلة حول الرياضة بصفتها هواية وموهبة ومهارة وتدرباً وصقلاً للقدرات من جهة، وحول كيفية التعاطي الشعبي والمؤسساتي والوطني معها من جهة ثانية.. فضلاً عما بات يعرف منذ عقود بأنها (تجارة) رابحة، كما هي ترويج وإبراز لهذا الفريق الرياضي أو ذاك، ولهذه الدولة أو تلك، وانعكاس لمدى تطورها في مجالات محددة.

وينظر إلى الرياضة عموماً، بأنها تعتمد في العديد من ألعابها على وجود الموهبة والمهارة أولاً، وعلى قدرة النادي (المؤسسة) والدولة في توفير مستلزمات تطويرها ثانياً. وإذا كانت تقسم إلى رياضة جماعية ككرة القدم ومثيلاتها، لا تتطلب تقنية متطورة ولا تجهيزات وبنى تحتية مكلفة، وإلى رياضة فردية تتطلب إلى جانب الهواية والمهارة الذاتية، التجهيزات والإمكانات فوق الفردية، أي المؤسساتية والدولالتية، كالجمباز والتزلج على الجليد.. إلخ، فإنها على امتداد العقود الأخيرة باتت تعتمد اعتماداً أكبر على الإمكانات التجهيزية الوطنية أيضاً.

ومنذ انطلاقة المونديال الأول لكرة القدم، الرياضة الشعبية، عام 1930 في الأوروغواي، ودوريته كل أربع سنوات، باستثناء سنوات الحرب العالمية الثانية، فإنه بات احتفالاً دولياً منظماً، له مؤسساته العالمية (الفيفا)، الممثلة لقارات العالم أجمع، وتمثيل كل قارة حسب عدد نواديها وإرثها وثقلها في هذه الرياضة.. كما أصبحت نوادي كرة القدم كغيرها من صنوف الرياضة، تعتمد إلى درجة ليست قليلة على القدرة المالية المؤهلة، وعلى العقود السنوية مع اللاعبين، وبخاصة الأجانب، وعلى التعاقد مع المدربين أيضاً.

وبات التعاطي مع المونديال واستضافته مجال تنافس واستثمار (بنى تحتية)، أي رأسمال ثابت ومتحرك يتلخص في الاستضافة وحركة النقل والإقامة والمشاهدة واحتكار حقوق البث التلفزيوني المحلي والعالمي.. إلخ.

وتدخل في هذا المجال إمكانات الدولة المضيفة والمؤسسات والشركات وحجم علاقاتها وتجهيزاتها وقدراتها على الاستضافة، من توفير البنى التحتية، وصولاً إلى حفل الافتتاح، وكيفية نقله عبر وسائل الإعلام دولياً. وفي هذا السياق نشير إلى فضيحة إمارة قطر، التي أعلنت (الفيفا) استضافتها للمونديال ،2022 بدءاً من الرشا التي دفعت إلى شبكة العلاقات الخاصة والسياسية التي استخدمت، مروراً بكيفية تجهيز البنى التحتية للمونديال، وخاصة كيفية التعامل مع العمال الأجانب وأجورهم وحقوقهم.. إلخ، وهي تهدد بسحب حق إقامة المونديال منها.

كما باتت إمكانات الدول وحجم نفقاتها تأخذ بالحسبان الحالة الاقتصادية- الاجتماعية، ومستوى المعيشة في البلد المضيف، وموقف  الطبقات والفئات الفقيرة من النفقات الكبيرة والهائلة، المخصصة للمونديال، والجهات والمؤسسات المستفيدة منه مباشرة، كذلك فوائد استثماره وكيفية توزيع فوائده وطنياً.

وهذا ما برز جلياً في مونديال البرازيل هذا العام، بدءاً من حجم النفقات، إلى البساطة وقلة تكاليف حفل الافتتاح (وبضمن ذلك عدم تقديم أغنية المونديال التقليدية)، إلى درجة وصفه المتابعون بأنه الحفل الأقل كلفة منذ عام ،1978 واقتصاره على إظهار الثقافة والطبيعة البرازيلية وحبها لكرة القدم، في محاولة لإقناع الجماهير البرازيلية بأن إقامة مونديال ناجح يعود بالنفع على الشعب البرازيلي، ويأتي هذا رداً على المظاهرات الشعبية التي سبقت المونديال، والتي طالبت بتخصيص هذه النفقات المقدرة بـ11 مليار دولار على البرامج التنموية والاجتماعية البرازيلية.

ورغم أن السياسة تدخل كل مسامات الحياة الاجتماعية وتحدد طبيعة النهج والتوجه الفردي والوطني والمؤسساتي، فإنه لابد من الإشارة إلى عدد من النقاط منها:

* أن التجمع الكروي العالمي، ودون نفي بعض الملاحظات الواردة أنفاً، يمثل منتدى عالمياً يحظى باهتمام ومتابعة المليارات من البشر.. وهذا ما يقدمه تجمعاً شعبياً دولياً، تلتقي فيه الأندية وتالياً دولها في لقاءات رياضية ودية، بعيداً عن طبيعة البلد المضيف وسياسته.

* أنه ورغم الجهود المتنوعة التي تبذل لاستضافته في هذه الدولة أو تلك، فإنه يأخذ في الحسبان العديد من العوامل الذاتية، وتطغى عليه القدرات والإمكانات وغيرها أيضاً.

* خلافاً للعديد من المؤسسات الدولية، وبضمنها مجلس الأمن الدولي، فإنه لا يتضمن في مؤسساته وفي دساتيره وأنظمة عمله، وخاصة (الفيفا) حق النقض (الفيتو) أو غيره من التمثيل المعطل لعمل مؤسساته، وتصنيفاً للدول حسب حجم علاقاتها الاقتصادية وموقعها الدولي.

* رغم محاولات تسييسه، فإنه يبقى تجمعاً دولياً أكثر ديمقراطية من العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية، يفترض المحافظة على طبيعته ومبتغاه، بوصفه مجالاً للالتقاء وإمتاع المليارات من البشر.

بقي أن نشير إلى أن العديد من الدول راهناً تنظم الكثير من مناسباتها الوطنية، بحيث لا تتعارض ولا تتقاطع مع مواعيد أنشطة كروية هامة، وأن اليونانيين القدامى كانوا يتوقفون عن الحروب مع أعدائهم خلال فترات الألعاب الأولمبية القديمة، وإننا نتذكر دبلوماسية كرة الطاولة (البينغ بونغ) بين الولايات المتحدة (في عهد الرئيس نيكسون) والصين، ولهذا مغزاه ومدلولاته أيضاً.

العدد 1105 - 01/5/2024