كي لا ننسى: عبد الجليل بحبوح (أبو فياض).. حقاً كنت شجرة لا تهزك الرياح العاتية

تعرّفي على (أبو فياض) و(أم فياض) عمره أكثر من 45 عاماً، وذلك بعد عودتهما من المدرسة الحزبية في بلغاريا، فقد تزوجا وسكنا في قبو شديد الرطوبة في المهاجرين.

بحكم سكننا في المهاجرين، وبحكم العلاقات العائلية والحزبية النشطة بين كل من أخي (مراد) وعائلته، و(أبو فياض وأم فياض) من جهة أخرى، وبين أم فياض وشقيقتي سعدية، نشأت بيننا علاقات حميمية جداً.

تشبيه الرفيق (أبو فياض) بشجرة لا تهزها الرياح العاتية، واقع أثبتته التجارب العديدة.. وأولاها حينما كان من نزلاء سجن المزة الأبطال أيام الوحدة السورية المصرية، وكان من أكثر الرفاق الذين تعرضوا لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وأشرسه، واستشهد الكثير منهم وعلى رأسهم وفي مقدمتهم القائد الشيوعي البارز الرفيق فرج الله الحلو، وبقي أبو فياض صامداً إلى أن أُفرج عنهم جميعاً.

وكانت التجربة الثانية أشد قساوة في مرحلة ما بعد الثامن من آذار، فقد استشهد رفيق دربه البطل مصطفى الزعبي، تحت التعذيب الوحشي، ولما يمضِ على اعتقاله سوى أيام، كانت الحالة نفسها مع الرفيق أبو فياض. لم يستطع الجلادون أن ينالوا من عزيمته ولم يزعزعوا ثقته بقناعاته الفكرية والسياسية، وبعد أن أشرف على حافة الموت، لم تتكرم أجهزة الأمن بإيصاله إلى بيته وتسليمه إلى عائلته، بل ألقت به أمام باب منزله وقرع أحدهم الجرس وهربوا، فوجد أهل المنزل أبا فياض عاجزاً عن الحركة وعن قرع الجرس، وبعد فترة نقاهة أرسل إلى موسكو للمعالجة، كنت آنذاك في موسكو، وذهبت إلى المستشفى لمشاهدته، فوجئت بحالته، كان هيكلاً عظمياً يكاد لا يستطيع الوقوف، ولكن الثقة والتفاؤل هي نفسها لم تضعضعها الشدائد!

والتجربة الثالثة حين تعرض لعملية جراحية خطيرة في القلب، كان الأمل بنجاحها شبه معدوم، وبعدها كم وكم تعرض لأزمات حادة.. مات فيها وعاش.. لم تره يائساً ولا متشائماً، ولدى عيادته كان يبادرك بالسؤال عنك وعن الجميع قبل أن تبادره بالسؤال عنه، وكان يدهشك بعدم ملامسة اليأس والتشاؤم لقلبه، وكان وهو في هذه الحالة حريصاً حتى أيامه الأخيرة تقريباً على المطالعة والقراءة والبحث عن الكتب والمراجع والوثائق.

ولا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أذكر بكل الاحترام والتقدير أن المرحوم الرفيق أبا فياض والرفيقة أم فياض كانا حريصين جداً على التواصل يومياً مع أخي مراد، بالصعود إلى الجادات سيراً على الأقدام لزيارته، فقد كان يمر بأيام عصيبة ليس فقط بسبب الآلام الشديدة التي يعانيها، بل من العزلة الخانقة التي لم يألفها بحياته، خصوصاً في ذلك البيت الذي لا تدخل إليه الشمس، ولا إطلاله لديه.

أما رفيقة الدرب، الرفيقة العزيزة زينب نبّوه (أم فياض) فقد أتت إلى دمشق وكان الحزب الشيوعي السوري يلملم جراحه ويعيد تنظيم نفسه، بعد الضربة القاصمة للظهر التي تعرض لها أيام الوحدة السورية المصرية. أتت أم فياض بخبرتها النضالية الغنية في صفوف  الحزب الشيوعي اللبناني، مدعمة بدراسة أكاديمية في المدرسة الحزبية في بلغاريا، والأهم من ذلك الهمة النضالية العالية والديناميكية وكذلك تميزها بالاتجاه في العمل والتركيز أكثر ليس في صفوف النخبة المثقفة، بل أكثر نحو الطبقات والفئات الأكثر فقراً وشعبية.. فوجدت في دمشق وريفها في البداية بيئة حاضنة لهذا التوجه، تجلت بزوجات المعتقلين وأمهاتهم وشقيقاتهم الذين كانوا في سجن المزة، والتي تكونت على مدى سنوات نضالهن، من أجل الإفراج عن المعتقلين أو تحويلهم إلى محاكمات علنية، وفي احتجاجاتهن بمختلف الوسائل ومنها المظاهرات، وتعرضهن للاعتقالات لدى منع الزيارات للمعتقلين أو اشتداد حملات التعذيب الوحشية للرفاق. وحسب اطلاعي كانت شقيقتي الرفيقة سعدية هي الأكثر ديناميكية وخبرة وشباباً بينهن وعلى صلة بقيادة الحزب عن طريقي، فقد كنت في دمشق وأستقبل رسولاً من قيادة الحزب في لبنان كل 15 يوماً، وكانت تؤمن للسجناء المطبوعات الحزبية المطبوعة على الأوراق الرقيقة.. فكانت ترفع من معنويات الرفاق في السجن ويطلبون الإكثار منها، هكذا كان للرفيقة أم فياض دورها في تطور نشاط المنظمات النسائية للحزب وقوتها في كل من دمشق وريفها بشكل خاص. لم يكن بيتهما كسائر البيوت والمنازل، بل كان (فندقاً) للرفاق القادمين من المحافظات، ولقاءاتهم، فلم يكن للحزب جريدة علنية ومكاتب، كان مكاناً يلتقي فيه الرفاق، من دمشق وريفها، ومكاناً لاجتماعات حزبية ولقاءات فردية ولتوزيع الجريدة، ومكاناً للسهرات الحزبية الهادفة، وحتى هذا اليوم تجد في الممشى خزانة صغيرة عليها كدسة من جريدة (النور) لتكون في متناول كل زائر للبيت.

أتعجب.. كيف تستطيع (أم فياض) أن توفق بين كل هذه الأمور والنشاطات المتعددة، وأن تدبر الأمور المنزلية، وكيف ومتى تقوم بكتابة مقالاتها الهامة ومداخلاتها الحزبية، ومطالعاتها.. إلخ، إنها القناعة الراسخة بالأفكار التي اقتنعت بها، والالتزام القوي بها والهمة العالية.

العدد 1105 - 01/5/2024