المسرح يعرّي نزعة الإمبريالية لتدمير الثقافة

لازمت نزعة تدمير الثقافة وحضارات الشعوب، الرأسمالية منذ صعودها وتركز ثرواتها المنهوبة وحروبها الهمجية وتدخلاتها الفظة في شؤون الدول المستقلة، وغدت هذه النزعة نهجاً يلحظ في كل مكان انقضت عليه قواتها العسكرية وقواعدها وشركاتها. وتصدى المبدعون الشباب لهذه النزعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإبان حرب فيتنام، وما تلاها من اجتياحات، وحمل المسرح العبء الأكبر في التعرية، وفي تغيير النظرة المقلوبة إلى تراث الأمم والشعوب، وإلى ثقافاتها، وعد تدميرها جريمة إبادة.

وفيليب لوله المسرحي الألماني الشاب واحد ممن واجهوا نزعة التدمير هذه، التي لم تقتصر على الإرث الثقافي والعمراني للشعوب الأخرى، بل وصل الأمر بها إلى تدمير إرث وطنه.

ولوله المولود في بلدة رافنسبورغ شمال شتوتغارت، والدارس لعلوم المسرح والأدب الألماني ووسائل الإعلام في جامعة فريدريش ألكسندر بنورنبرغ، ثم انتقل إلى برلين، وعمل محرراً ومخرجاً مساعداً في المسرح المركزي، وحصل على منحة للعمل في مسرح القصر الملكي بلندن، قبل أن يعود إلى برلين، ويعمل كاتباً متفرغاً لمسرح (مكسيم غوركي) منذ عام 2008.

أنجز لوله أعمالاً مسرحية متقنة لاقت طريقها إلى العرض، واستقطبت اهتمام النقاد، ومنها: أرض التسوق، عام 2005 ـ المدعو غوسبودين عام 2007 الشريك الكبير، عام 2008.

ومسرحيته (الفائضون) عرضت عام 2010 على مسرح غوركي في برلين، وقد ترجمها إلى اللغة العربية د. نبيل حفار، ونشرت في العدد 154 من مجلة الآداب العالمية الفصلية التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب، عام 2013.

المسرحية تسلط الضوء على المناطق المهمشة المعزولة عن العالم، والتشويه المتعمد الذي تمارسه الحضارة الاستهلاكية ضدها، وهي مكونة من ثلاثة وعشرين مشهداً مرقماً، بينها فصلان يتضمنان حكايتين ساخرتين تخدمان فكرة المسرحية. وحكايتها بسيطة ولاذعة في آن: (إدي) مغترب في أحد البلدان الإسكندنافية يتلقى برقية بوفاة والديه في حادث سيارة، فيعود إلى بلدته (لوكه)، التي لا يمر بها القطار، ويصل بعد معاناة إليها ليشارك في التشييع، وليكتشف أن البلد لا تحوي إلا الأحجار وأشجار الحور التي يستخدم خشبها في صنع التوابيت، وليكتشف إن السكان لا يفعلون إلا الاسترخاء في الشمس.

(إلن) زميلة (إدي) و(أوفه) في المدرسة، الأول يسبقها بصف والثاني يليها بصف، حولها خمول شباب (لوكه) أو اغترابهم عن البلدة إلى بائعة هوى في محطة القطار، ودليلة للتائهين، وحين فوجئت بعودة (إدي)ـ وشباب بلدة لوكه نادراً ما يعودون إليها ـ أبلغته أن أحوال البلدة تردت، فالشركة الصانعة للقطار ذي السكة الواحدة انهارت وسرحت عمالها بعد أن اشترت الهند صفقة كبيرة من السكك، ولم تدفع من ثمنها ماركاً واحداً، وصالون الحلاقة الذي كان لوالديها أغلق أيضاً، ولا يعمل في البلدة إلا (فيتس) زارع أشجار الحور، و(كريس) عمدة البلدة وساعي البريد، و(برانكو) الصربي المقاول، ولقبه أهل البلدة بالتركي، وفيتنامي (شارد) من جحيم العدوان الأمريكي على بلاده يعمل في المشرب، ويلقب بالصيني. بلدة (لوكه) يلفها السكون، حتى ساعة المحطة عاطلة (ص 16)، و(إدي) شارك في جنازة والديه، لكن اتهامات شقيقه له بالتهرب من المسؤولية أثناء التشييع كادت تفسد الجنازة. حاول شقيقه فتح متجر لأجهزة المسح الطبوغرافي، لكن المشروع أخفق، وآخرون غيره حاولوا أن يبدؤوا بمشروع، واقترضوا من البنك، لكن هذه البدايات لم تنجح وحذر موظف المصرف إدي من نفاد نقوده، وقال: اعمل على أن تغادر هذا المكان، واستثمر طاقتك في مكان يجلب النفع. أما هؤلاء السكان الزومبي فيسينقرضون مع لوكه كلها في خمس سنوات. (ص 64). أصر (إدي) على إحياء بلدة (لوكه) المنعزلة، فأقام شركة للشامبو، وتحمس لإقامة تمثال للبابا كي يجتذب السياح، وصمم بسطاً هوائية للاسترخاء، وخطط لإقامة (منتزه السكينة). لكن خططه ومشاريعه اصطدمت بسلبية العمدة، وشكوك موظف المصرف، الذي نقل لـ (إيدي) شائعات تقول إنه على اتصال بدوائر تركية معينة.

(أوفه) شقيق (إدي) يموت من الدوالي والإحباط، و(إدي) يصاب بلوثة جنون لأن أحداً لم يفهمه، أو لأن الذين يناديهم بأسمائهم لم يستمعوا إليه. قالت (إلن) للعمدة حين وجدوا جثة (إدي) بين القصب، وقد شج رأسه: فكرت بالخروج إليه، لأقول له إن عليه أن يتوقف (عن المناداة وعد النعوش اللازمة)، لكنني لم أجرؤ، فقد بدا كالمجنون. (ص 73).

اغترب (إدي)، لكن حلم العودة إلى بلدته ظل يراوده، وحين عاد أحس بغربة مضاعفة، فالتكيف مستحيل والرحيل صعب، روت مديرة شركة الشامبو لـ (ألن) قبل أن تسلمها ما تبقى من نقود (إدي) المتوفى قال لي ذات يوم: ظننتُ أني قادر على أن أخلع عني بلدتي كجلد عتيق، لكنه ينمو مجدداً. (ص 74). مسرحية جديدة وجريئة، توظف السخرية اللاذعة والحوارالسريع، والتقطيع المتقن فيه، والجمل الواخزة في تعرية واقع قاتم، و(لوكه) الواقع على نهر (لوك) غير العميق أشبه ببلدة من دول العالم الثالث لا نشاط فيها، وأهلها (فائضون) عن الحاجة، ينتظرون الموت. والحديث عن تمثال البابا يوحنا بولس الثاني الذي أقيم في فرنسا، واجتذب الكثير من السياح باعتباره (أسقط الشيوعية) سخرية ماكرة من البلاهة التي لم تر التحولات المتسارعة وتركز رؤوس الأموال واندماج الشركات، والإفلاسات الهائلة، والأزمات في المناطق المهمشة، وتحول دول وبلدات وصناعات صغيرة إلى حال من الكساد، وتحول ملايين البشر إلى عطالة وإقفار وخبل.

لم تنفع تحذيرات العمدة كريس وموظف المصرف لـ (إدي)، بأن مشروعاته لن تنجح في (لوكه)، وأن الجديد في نظر أهل (لوكه) غريب، قال له كريس: (هنا تسير الأمور بشكل مختلف، وهنا يحلون المشاكل بصورة مختلفة، ربما كان من الأفضل أن تتركنا بحالنا، يبدو أن الأمور قد تجاوزت قدرتك على التحمل.. مسألة أخيك، ووالديك، وفكرتك، كل شيء مات). ويستمر (إدي) في عناده، ويجيب: لن أترككم بحالكم، لقد دبرت المال، وسأبني التمثال، وسأنصبه هنا في ساحة البلدة، وسيستلقي الناس بالآلاف على بساطي). (ص 71).

مقولة المسرحية أن الأفكار التجريدية لا تفلح في تشكيل الواقع الذي يسير بحسب قوانينه ومستوى تطوره، وأن العزلة والإفقار والتهميش المنهجي يبيد ما لا تستطيع الأسلحة أن تدمره، وقد حالف التوفيق المؤلف في المشهدين الاستطراديين الذين قدما كحكايتين داخل حكاية المسرحية دون أن يضعفا تماسك العرض، وكانا أشبه باستراحتين صعّدتا السخرية إلى مستوى أعلى: المشهد الثالث عشر روى أمثولة الحاضنة المعقمة للطفل المصاب بمتلازمة الإيدز، وكبر فيها، ولم يشأ أن يخرج لإجراء جراحة تشفيه من المرض، وحين أخرج وأجريت له الجراحة هلك. (ص 43).

والمشهد التاسع عشر وفيه حكاية الكوخ الذي تربت فيه الطفلة (أوكسانا) مع الكلاب، فغدت تمشي على أربع وتنبح وتزمجر، وحين عرفت الشرطة بأمرها، وانتزعها موظفان في مشفى المتخلفين عقلياً لم تستطع الطفلة التأقلم، وحين أبلغها العمال بوضعها السابق أخذت تلعن اليوم الذي أنقذوها فيه. (ص 62).

المسرحية شهادة إدانة ضد نزعة القسر والهيمنة وتشكيل المجتمعات والمناطق والبشر دون فهم مكوناتها وأمزجتها وخصوصياتها، وضد الصرعات الاستهلاكية وتشويهاتها المنهجية للنفوس وللبيئة، وضد الاستلاب والاغتراب عن الواقع والسكونية المفرطة والخبل المعمم. وهي رسالة تؤكد دور المسرح لا في التعرية والكشف والتحريض فحسب، بل في التغيير والتقدم.

العدد 1107 - 22/5/2024